بقلم: خالد محمد عبده
بددتُ ما حفظته من القرآن صغيرًا غير آسف وقتها على ما ضاع من حفظي، لم أكن أعلم أنني سألتقي مسيحيًا يحفظ القرآن ويتدارسه ويستفيد من حفظه لآياته، لم يدر في ذهني أنني سأستمع يومًا إلى من يجتهد ويتلعثم في نطق حروفه ويرجو من الله أن يتمكّن من قراءته بالعربية! لم أتوقع أنني سأتحدث مع أحدٍ لا يؤمن بالكتاب ولا بقدسية الرسالات وفي الوقت نفسه يدمن النظر في أحرفه، ويحاول فهم معانيه. كنتُ غير آسفٍ وقتها رغبة مني في الإعلان عن ذاتي، وإشباع لذاتي، فما كنت إلاّ صبيًّا مراهقًا يحاول أن يثبت لمن حوله أن له صوتًا مسموعًا، والصوت عنده في رفض كل موروث، وتحطيم أحلام الآباء وتعجيزهم عن رؤية ما يرغبون في أن نكون عليه، وكأنهم عاشوا أعمارهم في سعادة ولم يروا شقاء بعد!
حاولت أن أتخلّص من كلّ ما تربّيت عليه، جريت هنا وهناك، ولم أعبأ بما يُقال عن فلان أو فلانة أو مكان أو زمان، كان كل ما حولي من عبث يجعلني مرتاحًا لأن أمضي في طريق غير ما رُسم لي، فعلت ما فعلت لا عن قناعة أو رؤية بالطبع، كان هوى النفس أعظم معبود وأجلّه! فما كنّا نحفظه ونردده في الصلوات وفي الجمع يخالف ما يضمره القلب من ملل ورتابة وخوف وقلق، لم يفهم أحدٌ ما نمرّ به من مراحل، ولم يقرأ أحد ما دُوّن في كتب علم النفس أو يسمع بأنواع السلوك، السلوك لا بد أن يكون على صورة واحدة! وما نحن إلا عرائس أو ريشات في يد الأرباب المقهورين، لذا تربّى النفاق في قلوب كثيرة وفرّخ أجيالاً عاشت وتعيش ولا تدري عن أنفسها شيئًا!
أذِن الله بلحظة من لحظات اليقظة تخفف ما عاناه الآباء من سخطنا وكفرنا بكل موروث، لكن الصحو لم يكن مكتملاً، حسبُ المتهشّم عظمًا والضعيف عقلاً أنه انتبه! أذن الله أن يلمس القلب الحب ويحيا للحظات، يراهق، يفرح، يلعب، يغضب، يسبّ، يضجر، يتألم، يغفر، يصفح، يعلم، ينكر، يطعم، ويبيت راضيًا، ويغني كطفل يريد أن يعود إلى لحظة المهد فيرضع من لبن الأم حنانًا بعد أن صار يعرف أن للوعي قيمة، وللحفظ قيمة، وللفكر قيمة.. لكن كما يزيد الإيمان وينقص، توجد اليقظة لحظة وتغيب للحظات .. قد تطول عمرًا.
تعلّق القلب بالأغيار بعد أن عرف الفرق بين التألّه وعبادة الذات، تعلّق بهم رُغمًا عنه، فسطوة الغير على قلب الضعيف مسلك بشري مغروس في الجبلّة والطبع مهما بدا الإنسان وديعًا ورقيقًا، فما إن يُمنح الفرصة لذلك ترى الحمل تحوّل إلى ذئب والفأر الصغير إلى أسد يملك الغابة التي لا سور لها ولا حدّ.
أذن الله وهو القاهر فوق عباده أن نغيب بمن حولنا عنّا، وأن نكون معهم في كل فعل شائن وإن لم نرتكب من أفعالهم شيئًا، ظللنا نراهم ولم نر الله بعد، ظللنا أسارى لشجبهم والتنديد بهم ولم نبدأ بخلق جديد، ظللنا في غيابة جبّهم نحيا وننظر إلى أفعالهم، رددنا بألسنتنا (الله أكبر- الله أعلم- الله ألطف- الله غفور- الله رحيم) ولم نؤمن برحمة أو لطف أبدًا! كان الله معنا ولم نكن معه أبدًا!
كنتُ نيّئًا فنضجت!
هو عنوان اخترته لجمع أشتاتي التي توزّعت معبّرًا فيها يأسي ومحاولاً فيها أن أكون صادقًا مع نفسي، لا أخجل فيها من الإعلان عن ذنب اقترفته، أو متحرجًا من فرح حقّ لي أن أظهره، وإن كان فرحًا بشيء زهيد، تحدثت فيها عن كل ما أهتم به، أو التقطته من دروس مما أقرأ أو أشاهد أو أسمع، كلّ ما فيه يخص هذا الإنسان الذي يحاول أن يحيا ولا يحب أن يموت أو يُقبر، كل ما فيه أنا راضٍ عنه وسعيدٌ به كخطوة من خطوات صعود سلّم الإنسانية الذي أومن أن أوله هنا وآخره غير معلوم لأحدٍ من هنا.
كنتُ نيّئًا فنضجت!
أرجو أن أختم به مرحلة من مراحل الفوضى في حياتي، وأن يكون بداية لمرحلة جديدة فيها من الوحي والنبوة والحكمة، فيها من الغيب والشهادة والحياة، فيها من الصدق ما يدوم، ومن الدروس ما ينفع، وما سردته هنا مجرد محاولة للتقديم ومحاولة لبدايات لن تنتهي ما دمت حيًّا.