القراءةُ ترياقٌ ضدَ الجهلِ.
ما من شكّ في أن واحدة من أهم النقلات الكبرى في تاريخ الإنسان هي مرحلة الكتابة، فلأول مرة أصبح الإنسان قادرا على حفظ المعلومة ونقلها من جيل إلى آخر، لكن مع أهمية هذه النقلة برزت مشكلة الحفاظ على هذه المعلومة من أيدي النسّاخ والكتبة من تحريفها، والحال أن كثيرا من الأفكار تعرّضت للتحريف، وهذا يضع على القارئ مسؤولية تحري الصحة فيما يقرأه، فليس كل ما هو مكتوب يعدُّ صحيحا ومطابقا للحقيقة.
القراءة ليست نشاطا مجانيا إن كانت غير دقيقة، بل قد تكون نشاطا مدمرا! إن كان للقارئ يؤمن بكل ما يقرأ ولا يستنفر حسه النقدي تجاه المادة المقروءة، هل نحن في حاجة إلى التذكير بما نراه من حركات المد الأصولي التي تحمل بعضها أفكارا إقصائية تجاه الآخر، مدعية أنها تستلهم التراث الديني الأصيل!.
إن ما نُحذّر منه أكثر هو تلك القراءة الإنتمائية التي تجذب القارئ إلى فكر بعينه وبمفكريه الذين غذّوه بنتاجهم الفكري عبر السنين، فالقراءة الإنتمائية غالبا هي قراءة تخدّر الحس النقدي طالما أن القارئ يميل إليها مسبقا؛ بسبب تكوينه الفكري السابق بل والسائد في معظم الأحيان، وما ندعو إليه هو القراءة الانفصالية، التي تَفصِلُ بين القارئ والمادة المقروءة تاركة له المجال لاختبار صحة الفكرة، وتدقيق المصادر والشواهد المتاحة قبل المصادقة عليها.
لدينا من الأمثلة الكثير؛ لكن ربما يظلّ أكثرها شهرة وأهمية، مثال: “مشروع نقد العقل العربي” للمفكر المغربي محمد عابد الجابري، فالجابري الذي تفرّغ لمشروع نقد العقل العربي قام بحشد المراجع التراثية الإسلامية، والفلسفية حتى المراجع الأجنبية؛ لتأييد أفكاره و أطروحته الضخمة، رغم أن مشروعا كهذا كان يستوجب الحيادية والدقة إلا أنه كان مشحونا بالمغالطات رغم قوة الطرح!.
ونجح الجابري في تمرير الأطروحة على القراء العرب بل والمفكرين رغم هذا! لماذا؟ لأن معظم تلك القراءات كانت انتمائية ومتسرعة، لم ينتبه معظمهم إلى الخطأ، ولم يكلِّف القارئ نفسه عناء تدقيق الفكرة، حتى أن من تصدى له بعد حين (جورج طرابيشي) قد مَدَحَ الكتاب عند صدوره؛ لكنه تنبّه إلى فقرة أوردها الجابري عن أخوان الصفا، بأنهم ضد المنطق، وهذا ما أثار لديه تساؤلات، فما يذكره من قراءته لهم أنهم يمدحون المنطق؛ فقرر أن يراجع المصدر الأصلي (رسائل أخوان الصفا)، حينها علم أن الشاهد به تحريف وتوظيف بعكس منطوقه، ومن هنا قرر الرد على المشروع.
إن هذه الحادثة هي التي تجعلنا نؤكد على مسؤولية القارئ تجاه المادة المقروءة، فكم من فكرة تم تداولها بعد تحريفها، ونُشرت على نطاقٍ واسعٍ، وهي تحمل في طيّاتها الكثير من السلبية، وتجد طريقا فيما بعد إلى عقول الناشئة، التي تعتنقها دون مساءلة ومراجعة، وتسببت بعض هذه الأفكار في تشويه فكر الناشئة بل ودفعتهم إلى مسارات يعتقدون أنها الطريق القويم.
يحيي الراهب