المحامي محمد بن سعيد أحمد المعمري *
“تعذيب المتهمين”.. عنوان تصدر منصات التواصل الاجتماعي، بعد المقاطع المرئية التي نشرها المواطن سلطان أمبو سعيدي وادعى فيها تعرضه للتعذيب، وهنا نطرح عليكم بعض الإضاءات حول هذا الموضوع.
في جميع دول العالم تقريبا هناك ادعاءات تتكرر من المتهمين في قضايا معينة، بأنهم تعرضوا للتعذيب من أجل إجبارهم على الاعتراف، وتتفاوت درجات التغول في التعذيب بين نظام وآخر، فبعض الأنظمة الاستبدادية تتجه إرادتها السياسية إلى تفعيل أدوات التعذيب بحق المتهمين؛ لذلك نجد أن لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان دائما ما توجه التنبيهات والتحذيرات لتلك الدول، وتصنفها ضمن الدول التي تتمتع بحماية متدنية لحقوق الإنسان.
بينما نجد أن بعض الأنظمة الأخرى حريصة على حماية حريات وحقوق الإنسان, إلا أن تصرف بعض الأجهزة في تلك الأنظمة -سواء بشكل ممنهج أو بشكل فردي- يكون بعكس تلك الإرادة السياسية، الأمر الذي يوجِد إخفاقات في حماية حقوق الإنسان لا يمكن تلافيها بشكل كلي.
وفي ظل حرص الأنظمة على محاولة تلافي هذه الإخفاقات؛ فقد نصت الكثير من التشريعات على ضمانات لحماية المتهم من التعسف في التعامل معه من قبل سلطة الضبط القضائي، ومن ضمن هذه التشريعات المشرع العماني؛ حيث نجد في قانون الإجراءات الجزائية هيمنة الادعاء العام على معظم الإجراءات، إذ أوجب على مأمور الضبط القضائي سرعة إبلاغ الادعاء العام عن أي جريمة تقع، ولم يسمح بإلقاء القبض على المتهم إلا بعد صدور أمر من الادعاء العام باستثناء حالات التلبس، والحال كذلك مع التفتيش.
وبذلك فإن معظم الإجراءات التي يقوم بها مأمورو الضبط القضائي خاضعة لرقابة لصيقة من الادعاء العام، كما جعل المشرع العماني أي مخالفة يقدم عليها مأمور الضبط القضائي خاضعة لسلطة المدعي العام في إحالتهم للمساءلة التأديبية، فضلا عن إحالتهم للمساءلة الجزائية حال ارتكابهم لجرم يختص بوظيفتهم وعملهم؛ تطبيقًا للمواد 32، 33, 36، 39، 41، 48 من قانون الإجراءات الجزائية.
ومن أهم الضمانات التي نص عليها المشرع هي المادة (50) من قانون الإجراءات الجزائية، حينما أوجب على رجال الشرطة إحالة المتهم إلى الادعاء العام خلال 48 ساعة، باستثناء قضايا أمن الدولة وقانون مكافحة الإرهاب، وفي هذا النص ضمانة بالغة بأن يكون المتهم تحت رعاية الادعاء العام، كما أوجب القانون على الأخير أن يستجوب المتهم خلال أربع وعشرين ساعة ثم يحدد ما إذا كان سيصدر في مواجهته أمرًا بالحبس الاحتياطي أو بإطلاق سراحه؛ إسقاطًا للمواد 50، 51 من القانون ذاته.
وتجدر الإشارة إلى أن الاعتراف له ضوابط فلا يؤخذ دون تبصر؛ حيث نص المشرع على أن المتهم إذا اعترف بالجرم المنسوب إليه أمام مأموري الضبط القضائي فيجب إحالته إلى عضو الادعاء العام لإثبات ذلك الاعتراف، وفي هذا ضمانة للتأكد من صحة الاعتراف؛ استنادًا للمادة 35 من القانون نفسه.
كما حظر القانون -بصورة صريحة- اللجوء إلى التعذيب أو الإكراه أو الإغراء أو المعاملة المهينة للمتهم لحمله على الاعتراف؛ ارتكانًا للمادة 41 من القانون آنف الذكر.
كما كلّف القانون الادعاء العام بزيارة السجون والاطلاع على أحوال المساجين وسماع شكواهم، وأعطى الحق للسجناء بتقديم الشكاوى لإدارة السجن والذي بدوره ينقلها للادعاء العام فورا؛ إعمالًا للمادتين 61 و62 من القانون سالف الإشارة إليه.
ضمانة أخرى للمتهم وهي محدودية أمر الحبس الاحتياطي من حيث المدة، فأوامر الادعاء العام بالحبس تمتد صلاحيتها لسبعة أيام قابلة للتجديد بحد أقصى إلى شهر، و(45) يوما بشأن جرائم الأموال العامة والمخدرات، وخلال هذه التمديدات يطلع الادعاء العام على أحوال المتهم ويستمع إليه، وبعد انقضاء المدة الممنوحة للادعاء العام تنتقل المهمة في التمديد إلى المحكمة وفي كل تمديد يقابل المحبوس القاضي، وله أن يقدم أي طلب أو أن يرفع أي شكوى، وهنا تكمن هيمنة المحكمة في الرقابة على أوضاع المساجين.
كما أن للمتهم أن يتظلم من أمر الحبس الاحتياطي إلى المحكمة، والتي تقوم على الفور باستدعاء ملف القضية وتفصل فيه خلال ثلاثة أيام على أقصى تقدير منعقدة في غرفة المشورة؛ تطبيقًا للمواد 54، 58 ، 59 من القانون المشار إليه.
تلك أهم الضمانات التي كفلها المشرع العماني للمتهم من أي تعسف في حجز حريته أو تعذيبه أو انتهاك خصوصيته أو غيرها، وبالعودة إلى ما ذكره المواطن سلطان أمبو سعيدي، نبسط الموضوع من الناحية الواقعية؛ وذلك على النحو الآتي:
لقد سلف القول أن المتهمين كثيرًا ما يدّعون بأنهم تعرضوا للتعذيب وأن الاعترافات انتزعت منهم انتزاعا، بل يذهب البعض إلى أنهم بسبب التعذيب يقولون للمحققين: “اكتبوا ما تشاؤون وسوف نبصم بالعشرة عليه ولكن فقط توقفوا عن تعذيبنا”، وما يهمنا في تحليلنا العقلي هذا بعيدا عن العواطف التي قد تأخذ بمشاعر البعض لتعكر صفو تفكيره، أن التعذيب قد يوجد لدى بعض أفراد الضبطية القضائية سواء على المستوى الفردي أو على شكل عصبة.
وقد جرّم قانون الجزاء الجديد أفعال رجال الضبط القضائي المخالفة للقانون؛ حيث جاءت نصوص القانون في المواد من (202, 203, 204 و205) حازمة في معاقبة مأموري الضبط القضائي عند حدوث أي تجاوز في التعامل مع المتهمين بمختلف الطرق، إلا أن اكتشاف ذلك يكون من الصعوبة بمكان، إذ أن الأفراد الذي يشهدون التعذيب واقعين تحت مفعول المانع المعنوي عن الشهادة ضد مسؤوليهم في التسلسل العسكري؛ خوفا على مستقبلهم الوظيفي من الضياع؛ الأمر الذي يجعلهم يلوذون بالصمت، وإذا ما تم استدعاؤهم إلى الشهادة فإنهم ينكرون أي تعذيب.
لذلك فالمشرع لم يترك المتهم بدون ضمانات تحميه، فقد تقدم القول بأن المتهم يجب عرضه على الادعاء العام خلال (48) ساعة، وعندئذ فإن أي مظهر من مظاهر التعذيب سوف تكون تحت سمع ونظر الادعاء العام، وبالتالي فإن الادعاء العام كلما كان مصطفا في جانب القانون والعدالة فإنه لن يقبل بأي إساءة للمتهم مهما كانت، وسوف يقوم باتخاذ الإجراءات التأديبية بحق مأموري الضبط، ولو قام كل عضو بدوره في هذا الصدد فإن نوعية رجال الضبط الذين لا يردعهم القانون ولا الأخلاق سوف تردعهم الرقابة اللصيقة من قبل الادعاء العام، ولو تحققت تلك الرقابة الأمينة والجريئة والمتفحصة لتلاشت هذه المظاهر، وإن كنا نقول أن عمان ما زالت بخير ولا تشكل هذه الحالات ظاهرة يمكن أن تثير القلق؛ ذلك أن النظام السياسي يجرم هذه التصرفات بأشد العقوبات، وإنما لا يخلو طابع عام من شواذ تصرفات فردية والقانون بالمرصاد لهم.
وما لفت انتباهنا فيما سرده المواطن سلطان أمبو سعيدي أن عضو الادعاء العام قد بادر إلى إحالته للفحص الطبي، بعد أن قدم له سلطان شكواه من قيام أفراد الضبط بتعذيبه بالصعق بالكهرباء، وهو تصرف طبيعي من حيث القانون ولكنه ليس طبيعيا من حيث الواقع؛ بل هو تصرف شجاع وجريء.
يقودنا ذلك إلى أن ثمة صعوبة تكمن في أن أساليب التعذيب والتنكيل بالمتهمين تتطور بحيث تتم بدون أن تترك أثرا بالمتهم الضحية، وحينما يستنجد المتهم بالادعاء العام أو المحكمة فإنهم لا يجدون لادعائه سندا واقعيا، خاصة مع تكرار هذه الادعاءات من المتهمين والتي في الغالب الأعم ما هي إلا محاولة للتملص من اعترافاتهم في مراحل التحقيق السابقة على المحاكمة.
إلا أنه وفي جميع الأحوال فإن المشرع قد نص بشكل صريح أن محاضر التحقيقات السابقة على المحاكمة ليس لها حجية في الإثبات أمام المحكمة، وإنما يجوز لها الاستفادة منها في استخلاص القرائن واستخدام عناصرها في مناقشة المحقق كشاهد بعد حلفه اليمين فيما أثبته في محاضره؛ استنادًا للمادة 186 من قانون الإجراءات الجزائية.
ولما كان محور حديثنا يدور حول حالة المواطن سلطان أمبو سعيدي، سواء كانت روايته صحيحة أم لم تكن كذلك، فإن الحل يكمن في تعزيز دور الادعاء العام وتعزيز الحرص لديهم على سلامة المتهمين، وربما بابتداع تشريعات جديدة تجعل للمجتمع دورا محوريا في حماية الحقوق والحريات من خلال الجمعيات الحقوقية التي ترعاها الدولة وتجعلها كريات دم بيضاء تهاجم أي تصرفات شاذة تنتهك حقوق الأفراد المكفولة بموجب النظام الأساسي للدولة والمكفولة بالإرث الحضاري العريق لهذا البلد الآمن أهله.
ختاما مهما أحكم المشرع نظامه فلابد من شذوذ لأن هذه سنة الحياة، والحصافة في السياسة تكمن في عدم المراهنة على القانون وحده في تقويم السلوك، بل المراهنة الكبرى في زرع الأخلاق السامية في نفوس الناس منذ نعومة أظفارهم، وفي هذا حديث له مقامه.
نأمل أن نكون قد ألقينا الضوء على الواقعة المذكورة من حيث القانون والواقع بنظرة مجردة بعيدة عن الاصطفاف.
*مكتب محمد المعمري – محامون ومستشارون قانونيون
Cicrone7@gmail.com
*الصورة من محرك البحث العالمي (جوجل)