الكاتب: بدر بن سالم العبري
تحدّثنا سابقا عن رؤية أبي حامد الغزاليّ [ت 505هـ]، وهنا نتحدث عن رؤية أخيه أبي الفتوح أحمد بن محمد الطّوسيّ الغزاليّ [ت 520هـ]، خاصة أنّ الأخير لخص كتاب إحياء علوم الدّين لأبي حامد الغزاليّ في كتابه لباب الأحياء في جزء واحد.
وأبو الفتوح من علماء وفقهاء الصّوفيّة توجها، والأشاعرة اعتقادا، والشّافعيّة فقها، ودرّس بالنّظاميّة نيابة عن أخيه أبي حامد لمّا ترك التّدريس فيها، ومن كتبه الذّخيرة في علم البصيرة.
ولن نتحدّث بطبيعة الحال عن الواقع المجتمعيّ والزّمانيّ؛ لأنّ هذا مرتبط بنفس فترة أخيه، وسبق الحديث حوله فليرجع إليه، والّذي يهمنا هنا رسالته المسماه: بوارق الألماع في تكفير من يحرّم السّماع، وهي رسالة صغيرة في حوالي ثلاث وعشرين صفحة، ولا زالت مخطوطة، والظّاهر أنّها طبعت حجريّا في مطبعة أنوار محمديّ ضمن أربع رسائل في السّماع، وهي فرح الأسماع برخص السّماع لأبي المواهب محمد بن أحمد الشّاذليّ التّونسيّ [ت 882هـ]، وإبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السّماع لمحمد بن علي الشّوكانيّ [ت 1255هـ]، ورسالة في السّماع للقاضيّ عيسى بن عبد الرّحمن الكجراتيّ الهنديّ [ت؟]، مع رسالة أبي الفتح الغزاليّ، وكانت رسالته في الكتاب من صفحة 57 وحتى صفحة 80.
وعلى صغر الرّسالة إلا أنّها مهمّة كوثيقة متقدّمة زمنيّا، ولئن كان أبو حامد أسهب في الجانب الفلسفيّ، إلا أنّ أخاه حاول تأصيل المسألة من ثلاث نواحي: النّاحية الطّبيعيّة العقليّة، والنّاحية الاستدلاليّة النّقليّة من الكتاب والسّنة، والنّاحية الصّوفيّة والرّوحانيّة والرّمزية.
بيد أنّ المؤلف أفرط في تكفير من يحرّم السّماع وفي تفسيقه، والكفر إذا أطلق فقها عند الأشاعرة وأهل الحديث المراد به الكفر المليّ إن لم تصرفه قرينة إلى الكفر اللّغويّ، خلافا لما عند الإباضيّة فالكفر إذا أطلق فقها عندهم فالمراد به الكفر اللّغويّ إن لم تصرفه قرينة إلى الكفر المليّ.
وعلى العموم دليل المؤلف في كفرهم قوله: من قال إنّ السّماع حرام فقد حرّم في الشّرع ما لم يرد النّص به، إذ لم يرد في كتاب الله، ولا في سنّة رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – نص بتحريم السّماع والرّقص، ومن حرّم في الشّرع ما ليس يحرم؛ فقد افترى على الله كذبا، ومن افترى على الله كذبا كفر بالإجماع.
وأمّا تفسيقهم فلأنّه قسّم الأحاديث إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أحاديث متواترة كأحاديث الصّلاة والزّكاة، وجاحدها كافر.
القسم الثّاني: أحاديث مشهورة الفرع، وجاحدها فاسق.
القسم الثّالث: أحاديث آحاد الأصل وذا لا شيء على جاحده.
وعلى هذا التّقسيم قرر أنّ أحاديث إباحة سماع الدّف والغناء والأشعار من قسم آحاد الأصل، مشهور الفرع، وعليه جاحده يفسق.
والصّواب قضية الغناء والمعازف من قضايا الرّأي، لا علاقة لها بكفر ولا فسوق، فمن رخص له أدلّته العقليّة والنّقليّة، وكذلك من تشدد، وكلّهم يعظمون الله تعالى ورسوله، فنقول إن المؤلف – رحمه الله تعالى – في عنوان رسالته كفرا أو تفسيقا جانب الصّواب.
ونأت إلى النّاحية الطّبيعيّة العقليّة، حيث يرى المؤلف أنّ حاجة الطّبيعة الإنسانيّة إلى الصّوت لأنّها من كمالاته الصّوريّة والمعنويّة، كما أنّ الطّبيعة الجسديّة يحتاج في بقائها إلى الغذاء من حيث هو غذاء، حتى يختار الغذاء إليه حالة الاحتياج إليه على جميع محتوياته جاها ومالا، فلمّا حصل في الصّوت زيادات ترتيبات ومنشيات ذوقيّة وحيّة، وهو علم للموسيقى؛ مالت الطّبيعة إليه أقوى من ميلها إلى ما سواه من اللّذات.
ولهذا يرى أنّ رفع الأصوات بالأنغام الموسيقيّة – أي في قراءة القرآن – مطلوب الإنسان مطلقا، وهو ما يعبر عنه بالمقامات الموسيقيّة، واستند لهذا إلى قوله تعالى: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ}[2] قال المفسرون: الصّوت الحسن، ولرواية: من لم يتغنَّ بالقرآن فليس منا[3]، ورواية: زينوا القرآن بأصواتكم[4].
وأشار المؤلف في رسالته إلى العديد من القواعد الفقهيّة العقليّة منها:
- قاعدة: خصوص السّبب لا يمنع عموم الحكم، ومثّل له برواية: يا أبا بكر، إنّ لكل قوم عيد وهذا عيدنا[5]، فالعيد هنا ليس قيدا يخصص به، وإنّما سبب يماثله أي فرح وسرور وابتهاج.
- قاعدة: الشّيء المطلق إذا جاز بعضه، ولم يرد النّهي عن الباقي دلّ على جوازه، ومثله دلّت النّصوص على جواز الدّف، بيد أنّه لم تأت نصوص في الآلات الأخرى، فدلّ على الجواز كأصل عامّ، إلا ما منع، أو ارتبط بعلّة تخرجه إلى الحرمة أو الكراهة، ولهذا ضرب في رسالته ثلاثة أمثلة من الآلات:
المثال الأول: الدّف بالصّنوج[6]: حيث اعتبر جوازه؛ لأنّه إذا سلّمنا جواز استخدام الدّف من غير صنوج، وذلك لأنّ العرب كانت تستعمله كذلك، فدلّ على جواز الدّف بالصّنوج.
المثال الثّانيّ: القضيب الفارسيّ: لم يرد فيه شيء فيبقى على أصل إباحته.
المثال الثّالث: المزمار، وهذا يحرم للخبر في ذلك، أي كرواية: صوتان ملعونان في الدّنيا والآخرة: مزمار عند نعمة، ورنة عند مصيبة[7].
- قاعدة: إذا ورد نص يقبل العموم؛ وجب أولا طلب المخصص، فإن وجد فذاك، ولا يحمل إلى العموم، واستند إلى رواية: احثوا وجوه المداحين بالتّراب[8]، مع ورود أنّ كعب بن زهير [ت 26هـ] مدح النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – في قصيدته: بانت سعاد فقلبي اليوم متبوله، فألقى إليه – عليه السّلام – بردته[9]، فيحمل النّهي على المدح إذا كان كذبا أو نفاقا، ووجه الشّبه أنّ ما ورد من نهي في الغناء والمعازف لا يحمل على عمومه؛ لوجود المخصص في الإباحة.
- استخدم نظريّة التّعليل، حيث أنّ روايات النّهي عن السّماع معللة بالسّماع الملهي عن الحق والعبادة، وما يبعد عن الحق، فإذا ارتفعت العلّة أصبح باقيا على أصل الإباحة.
ثمّ انطلق المؤلف إلى النّاحية الاستدلاليّة النّقليّة من الكتاب والسّنة فهذه سنأتي إليها في مبحث الأدلة، وهنا يحاول أن يربط بين الدّليل والعليّة العقليّة، كرواية الرّبيع بنت معوذ[10] قالت: جاء النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – يدخل حين بني علي، فجلس على فراشك مجلسك مني، فجعلت جويريات لنا يضربن بالدّف، ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر، إذ قالت إحداهنّ: وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال: دعي هذا، وقولي بالّذي تقولين[11]، فقال: فدلّ الحديث أنّ النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – سمع الدّف والغناء والشّعر من جويريات ليس في حالة يحرم سماع أصواتهنّ؛ فسماع الغناء والأصوات من الرّجل إباحته من طريق الأولى!!
وأخيرا تطرق المؤلف إلى النّاحية الصّوفيّة والرّوحانيّة، مستخدما الإشارات الرّمزيّة كعادة الصّوفيّة، رابطا بين الزّمان والمكان ومن يشاركه الخلّوة والرّوحانيات، وهذه لا يهمنا كثيرا في مبحثنا هذا، لذا من أراد المزيد فليرجع إلى رسالة المؤلف!!
يتبع الحلقة الثّامنة عشرة …..
الهامش:
[1] للمزيد ينظر رسالته: بوارق الألماع في تكفير من يحرّم السّماع، مخطوط.
[2] فاطر/ 1. وسيأتي بيان الاستدلال بالآية في مبحث الأدلة.
[3] رواه أبو داود من طريق عبيد الله بن أبي يزيد، كتاب الوتر، باب استحباب التّرتيل في القراءة، حديث رقم: 1260.
[4] رواه النّسائيّ في الصّغرى من طريق البراء، كتاب الافتتاح، باب تزيين القرآن بالصّوت، حديث رقم: 1004؛ وابن ماجه باللّفظ والطّريق نفسه، كتاب إقامة الصّلاة والسّنة فيها، باب في حسن الصّوت بالقرآن، حديث رقم: 1332.
[5] رواه مسلم من طريق عائشة، كتاب صلاة العيدين، باب الرّخصة في اللّعب الّذي لا معصية، حديث رقم: 1485.
[6] الصَنْجُ الّذي تعرفه العرب، وهو الّذي يتَّخذ من صُفْرٍ يُضرَب أحدهما بالآخر، وأمَّا الصَنْجُ ذو الأوتار فيختصُّ به العجم، وهما معرَّبان.
ينظر: الجوهريّ: أبو نصر إسماعيل بن حمَّاد؛ الصّحاح في اللّغة، كتاب الصّاد، كتاب الصّاد، مادّة صنج. [نسخة الكترونيّة].
[7] رواه الرّبيع بلفظ قريب من طريق ابن عباس، كتاب الطّلاق والخلع والنّفقة، باب في المحرمات، حديث رقم: 636.
[8] رواه مسلم من طريق همّام بن الحارث، كتاب الزّهد والرّقائق، باب النّهي عن المدح إذا كان فيه إفراط، حديث رقم: 5327.
[9] ذكر الرّواية أبو زرعة طاهر بن محمد المقدسيّ في صفوة التّصوف، كتاب المعاشرة، باب السّنة في إلقائهم الثّياب، حديث رقم: 316.
[10] تقدّم ترجمتها.
[11] تقدّم تخريجه.