جمال النوفلي
من ساحة الكونكورد رحنا نمشي غربا نحو شارع الشانزليزيه، وهو الشارع المعروف الذي يربط ساحة الشانزيليزيه بساحة الكونكورد التي يقع خلفها متحف اللوفر، الذي أجلنا زيارته حتى يوم آخر وفضلنا أن نذهب لتناول وجبة الغداء في هذا الشارع وذلك لأن الوقت كان ضيقا وكنا متعبين من التجول في المدينة وفي معالمها الثقافية والدينية، بالإضافة إلى أن متحف اللوفر كبير جدا ولا تكفيه سويعات للتجول والتعرف على مقتنياته.. . والأمر الآخر الذي قادنا إلى تناول الغداء في هذا الشارع هو أنني أحبه كثيرا أو هكذا كنت أعتقد قبل أن أزروه، فقد سمعت عنه كثيرا عند بعض أنسابي الأثرياء بأنه أغلى وأرقى شارع ليس في باريس فحسب بل وفي العالم أجمعه وأن فيه كبرى محلات الأناقة والمقاهي والماركات وكل ما هو ثمين، يقول نسيم إن هذا الشارع قديم جدا يعود تاريخه إلى عام ١٦١٦ ميلادي عندما أمرت ملكة فرنسية اسمها ماري دي مسيديس أن يخصص شارعا مفتوحا وواسعا يمكن للعربات والناس أن يعبروا فيه بكل أريحية وهدوء وبدون أي مضايقات، وهكذا صمم المهندوسون هذا الشارع على هذه الهيئة ليكون بجادتين واسعتين للمشي يتوسطه هذا الممر الواسع للعربات الذي أصبح الآن للسيارات كما ترى، ويفصل بين ممر السيرات وجادتي المشاة أشجارة متناسقة القياس مصفوفة بعناية تامة وبين كل شجرة وشجرة عمود إنارة، وفي الشتاء في أيام عيد الميلاد ( الكريسمس ) تقام احتفالات كبيرة هنا، ليتك تزورنا في إجازة الكريسمس، حيث تطفئ مصابيح المدينة ويضاء هذا الشارع فقط وتضاء هذه الأشجارة بمشاعل ومصابيح ملونة بألوان ساحرة تبعث البهاء والجمال والروعة في المكان، إنه حدث جميل ومهم أيضا للمشاهير والفنانين، حيث عادة ما يفتتحه عمدة باريس بنفسه مع أحد نجوم الفن العالميين، الافتتاح يكون عادة بالضغط على زر إشعال الإنارة.
- جميل جدا يا نسيم، أرى أنك ملم بمعلومات وافرة عن هذا الشارع.
- لا ليس الأمر كذلك، لكنك تحب هذا الشارع فوددت أن أعطيك بعض المعلومات التي حضرتها مسبقا، هل تريد أن نذهب لمشاهدة قوس النصر، أم تفضل أن نتغدى.
- دعنا نتغدى أولا ثم نذهب إلى قوس النصر.
المطاعم والمقاهي كثيرة في هذا الشارع خاصة في الواجهة الأمامية، أما الحانات ودور السينما فهي في الشوارع الخلفية، والعرب كثيرون في هذا الشارع، حتى إن بعضهم يسميه شارع العرب، قال لي نسيم عندما جلسنا إلى طاولة خارجية مستديرة في إحدى تلك المطاعم وقد خلعنا قمصاننا كما يفعل بقية الناس:
- هذا شارعكم.
- ماذا تقصد بشارعنا؟
- شارعكم يعني شارعكم أنتم العرب لأنكم تأتون إلى هنا لتنفقوا بسخاء في شراء المقتنيات باهضة الثمن وتتناولون الطعام في هذه المطاعم الفخمة.
- لكن أنت نفسك عربي.
شعر نسيم بنوع من الحرج والصدمة وكأنه نسي بأنه عربي وأضاف:
- لا. أقصد العرب الأثرياء الذين يأتون من الخليج بسياراتهم الفارهة.
- وأنتم ألا تأتون هنا؟
- لا طبعا، هذه أول مرة في حياتي أجلس في مطاعم هذا الشارع لأتناول شيئا، لم يخطر في بالي يوما أن أتناول طعاما هنا.
جلسنا في المطعم وطلبنا قائمة الطعام من النادلة الجميلة التي كانت تبتسم لنا بدفء وشعرها الأسود غير الداكن يهبط على كتفيها كشلال أسود، طلبنا وجبتين واحدة نباتية عبارة عن فطر وسلطة وأخرى غير نباتية عبارة عن شريحة لحم وطلبنا أيضا كأسي نبيذ أحمر، الطعام في فرنسا ليس لذيذ كما كنت أتصور، فحتى الآن لم أستمتع بأي وجبة لذيذة، نعم هم رائعون في طريقة تقديمه وتناوله لا خلاف في ذلك، لكنني لم أستلذ طعامهم.
تكون الطاولات الخارجية في هذه المطاعم عند منتصف النهار ممتلئة بالناس عادة، كنا محظوظين بهذه الطاولة التي لم يطل انتظارنا حتى حصلنا عليها، جاءت فتاتان جميلتان خمريتا اللون بكعوب عالية، ساقاهما طويلتان أسفل تنورتيهما، وأثديتهما الكواعب بالرغم من صغرها إلا إن منابتها كانت مضمومة مكشوفة بإغراء، وقد ربطت إحداهما على عنقها قلادة سوداء تملع فيها جواهر ماسية صغيرة، وتلبسان نظارتين شمسيتين لا شك إنهما من إحدى الماركات الغالية التي لا أعرفها، جلسا تماما إلى الطاولة المجاورة لنا، وكأنهما يريدان معاكستنا، هكذا فسرت الأمر في عقلي وقلت لنسيم جذلا:
- انظر، أليستا فتاتين جميلتين.
قال دون أن ينظر إليهن: - أجل أجل هما كذلك.
- طيب اذهب وتكلم معهما، ادعهما لمشاركتنا الطاولة…، سأدفع أنا الحساب.
قال في خجل وتحرج: - أرجوك .. ، لا لا أستطيع.
- ولماذا لا تستطيع، هما فرنسيتان وأنت فرنسي وتفهمون بعضكم جيدا.
- لا. هما عربيتان منكم.
- كيف عربيتان، لا يمكن أن يكونا عربيتين، مستحيل.
- عربيتان وخليجيتان، أنا متأكد.
بقينا أنا ونسيم نتجادل ونحاول أن نسترق السمع لنعرف إن كانا عربيتين أم لا، لكننا لم نستطع أن نتبين، وعندها قررت أن أتحدث إليهما بنفسي وأدعوهما لمشاركة الطعام، فأدرت مقعدي نحوهم بجرأة وشجاعة، بينما لم يتلفتا هما إلي، قلت وبلغة انجليزية:
- هاي
ردت إحداهما التي كانت تربط رقبتها بمجوهرات، وكان مقعدها يقابلني وهي تهز رأسها مستفهمة: - هاي؟!
- كيف حالكم بخير
- بخير!!
- عذرا على الإزعاج، بس كنت في نقاش مع صديقي حولكما، وكل واحد منا كان يخمن من أي بلاد يمكن أن يأتي هذا الجمال والأناقة والحلاوة، ونريد أن نعرف الحقيقة منكم.
- يعني تريد تعرف من أي دولة نحن؟
- نعم نعم.
- نحن من دبي.
وانتابتني صدمة من جوابها، بينما شعر نسيم بالانتشاء والنصر، ثم أكملت حديثي معهما:
- لا يمكن أن تكونا من دبي
قالت بجرأة واستفزاز وتحدي: - كيف لا يمكن أن نكون من دبي، نحن من دبي.
- لا لا لا ما ممكن.
- لماذا لا .
- انزين من أي منطقة في دبي أنتم؟
قالت دون أي تردد أو تفكير:
- من منطقة جي تي ار
- اسمعي أنا من مسقط سلطنة عمان إذا تعرفيها، وهي قريبة جدا من دبي وأنا أعرف أهالي دبي وأهالي الإمارات ونساؤهم فهم أهلنا، لهذا أنا أصر على أنك لست من دبي، والجي تي ار هذا شارع وليس منطقة سكينة.
هنا اضطربت الفتاة وتبدلت سحنتها، وشعرت ببعض المهانة والحرج، لم تكن تعرف ماذا تقول، سكتت برهة تنتظر مني أن أقول شيئا، ثم خلعت نظارتها ووضعتها إلى الطاولة في حركة لا شعورية لاستعادة الثقة وتبدل الموقف:
- حسنا، أنا لم أقل إننا عربيات، نحن لسنا عربيات، نحن من صربيا ولكننا نقيم في دبي، هل تظن بأنني أكذب عليك عندما قلت بأنني من جي تي ار، حسنا قد أكون من جي تي ار وقد لا أكون من هناك، لقد أعطيتك الإجابة لأن لونك وشكلك ولبسك لا يوحي بأنك عربي، عذرا على كلامي هذا، لقد ظننك متطفلا فأعطيتك إجابة سريعة، أما وقد شرحت لي من أنت، فها أنا أخبرك التفاصيل كما تريدها.
لقد كانت تتحدث وهي مهتاجة وصديقتها تحاول بصمتها وتقليب نظرها يمنة ويسرة أن تخفف عنها الموقف وكأنها تقول لها دعك من الوقح المتبجح وهيا نخرج من هذا المكان اللعين، أما أنا فبعد سماع كلامها، اعتذرت لها وشكرتها وقلت لها ضاحكا ومخففا عنها:
- لقد قلت لصديقي أنكما لستما عربيتين ولكنه كان يصر بأنكما عربيتان ههههه، هههه..
لم تضحك الفتاة ولم يضحك أحد، كنت وحدي أقهقه كالمجنون، أعادت الفتاة ظهرها إلى صدر الكرسي كنوع من الخلاص، أخذت رشفة من قهوتها الساخنة، ثم لبست نظارتها وقالت لصديقتها كلاما لم أفهمه، جمعا بعده أغراضهما ورحلا.. ، قال لي نسيم ساخرا:
- هل هكذا تعاكسون الفتيات في عمان؟
- اسكت اسكت
الحقيقة وبعد تفكري في الموقف، أرى أن أغلب الذين يرتادون الشانزيليزيه هم ليس عربا وإنما سياح أو مقيمون من بلدان شتى وهم ماديون أي يعيشون من أجل المادة الاستهلاكية ولا يهتمون بالروح الانسانية ولا بالقيم، يدعون بأنهم عرب، لإضفاء مزيد من الثراء والغنى والهيبة على شخصيتهم، ولإرضاء غرورهم وشعورهم بالفوقية على متوسطي الدخل والفقراء، مع أنني أتعجب من مواطني بعض الدول، لماذا يعجبون بالعرب ويريدون أن يكون عربا؟، وتعجبت من هذا العالم المادي كيف يعيش فيه الناس سعداء بالجري وراء البذخ والتنافس في تزيين أجسادهم وتملك غير اللوازم، كنت أتذوق النبيذ بيأس من هذه البلاد الفرنسية، إنها جميلة جدا ولكن فيها أناسا مدعين، حتى إنني لم أجد اللذة المعتادة في شرب النبيذ، كان محل سيارات فراري يقع مقابلا لي في الجادة الثانية من الشارع، وكان الناس يصطفون بجواره لشراء قميص نيمار اللاعب البرازيلي المشهور وقد علقت صوره وهو يلبس القميص الجديد حاملا رقم ١٠ في فريق باريس سانجيرمان، حيث سيلعب نيمار بعد يومين مباراته الأولى معهم، لم أعرف هل كانوا يشترون القميص من وكالة فيراري أو من محل بجواره.
خرجنا من المطعم بعد ساعة واتجهنا إلى قوس النصر والتقطت صورة أمامه بينما الشمس كانت قابعة خلف القوس ترسل أشعتها من وسطه لتغطي بها جسدي وتسطع من بين أصبع يدي السبابة والوسطى صانعا بهما علامة النصر، هكذا طلبت من نسيم أن يلتقط لي الصورة، لأنها تمنحي شعورا بالنصر وبإمكاني أن أضعها في بروفايل الواتساب، قال نسيم: إن كنت تشعر بالنصر فلا شك أن فيك روح نابليون الذي بنى هذا المجسم الكبير تخليدا للنهضة الفرنسية وانتصارات الفرنسيين.
- والله، شكرا يا نسيم.
وعدنا إلى الفندق منتشين متناسين كل مشاجراتنا.