محمد المبارك خالد التيرابي
من المصطلحات التي نرددها كثيرًا مصطلح “التغريب” والمقصود به سعي الغرب إلى حمل المسلمين على قبول ذهنية الاستسلام والاحتواء والتحرك من داخل دائرة الفكر الوافد (وليس من داخل عقلية الغرب نفسه)، حتى تسقط النفس الإسلامية ويسقط العقل الإسلامي صريع الخلاف والاضطراب، ويتشكل إحساس بالسلبية المطلقة والعدمية(١).
لقد استخدم الغرب الكثير من المنبهرين بحضارته المادية من الأذيال التابعين ليعرضوا الفكر الغربي في شكل براق متضمنًا بعض الحقائق والثوابت حتى يوهموا القراء والمستمعين والمشاهدين عبر البث المرئي والمسموع والكتب والصحف ووسائل الإعلام الأخرى أنهم يبحثون عن الحقيقة بدافع من أمانة العلم وطهارة المقصد!!!
والهدف من التغريب هو إخراج المسلمين من دائرة فكرهم مما يخلق شعورًا بالنقص في نفوسهم.
يقول الأستاذ أنور الجندي:
تستهدف محاولات التغريب اليوم عدة أغراض:
أولًا: محاولة إسقاط أسس وقيم وفرائض أساسية كالجهاد مثلًا.
ثانيًا: محاولة إضافة أشياء ليست أصيلة كالإسرائيليات.
ثالثًا: محاولة تمويه القيام بإعلاء القانون الوضعي على الشريعة.
رابعاً: إثارة النعرات الإقليمية والعنصرية بالدعوة إلى القوميات والتجزئة.
خامسًا: محاولة التمويه بخلط الأخلاق الإسلامية المصدر بالعادات والتقاليد التي هي من صنع المجتمع.
سادسًا: محاولة تأليه العقل، وتقديس العلم، والدعوة لعبادة البطولة.
سابعًا: محاولة الفصل بين الأدب والفكر، واللغة والدين، والدين والمجتمع.
فمحاولة إسقاط الجهاد مثلًا، إنما تتمثل في إضفاء صورة عن الإسلاميين من قبل الغربيين غير واقعية كاتهامهم بالإرهاب والتطرف والتزمت، حتى وإن طالبوا بحقوقهم المشروعة، وقاتلوا في استردادها. فالغرب يخشى تكرار تجربة الحروب الصليبية في القرون الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من الميلاد على التوالي حيث لم يفلح الأوربيون في الاستيلاء على بيت المقدس وهزيمة المسلمين عندما كانوا موحِّدين وموحَّدين منضوين تحت لواء “الله أكبر”… الله أكبر من كل كبير.
فإحياء الجهاد أمر يقضُّ مضجع الغرب إذ يهدد مصالحه ويُفشل مخططاته التوسعية التي تتلفع بثوب حقوق الإنسان والغيرة على الديموقراطية. وتجربة المجاهدين الأفغان ليست عنا ببعيدة، فقد هزمت أكبر الدول في العالم من حيث القوة العسكرية، وتحطمت أسطورة الجبار العملاق (الاتحاد السوفيتي) تحت أقدام المجاهدين الحفاة الجوعى بقدرة القادر القاهر فوق عباده.
يقول الله تعالى: ” إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين”(١).
أما فيما يتعلق بإضافة أشياء ليست أصيلة كالإسرائيليات التي واجهت الفكر الإسلامي في مراحله الأولى فقد أرادت أن تُدخل إلى السنة النبوية وإلى التفسير سيلًا من الأكاذيب والأساطير بفعل خصوم الإسلام من يهود ومجوس وغيرهم، ولكن تنبه المسلمون إلى ذلك وقضوا عليها، عندما نشأ علم الرجال وعلم الجرح والتعديل.
وفي العصر الحديث حاول بعض الكتاب التغريبيين أن يعيدوا تلك الأكاذيب، ولم يقبلوها في صورتها الساذجة القديمة، بل أضافوا إليها وتوسعوا فيها عن طريق ما يسمى ب”تأديب التأريخ” وهي محاولة في كتاب (هامش السيرة النبوية) مثلًا.
وبالنسبة إلى محاولة تمويه القيم بإعلاء القانون الوضعي على الشريعة فهذا ما يطمئن إليه من يدَّعون بأنهم تقدميون وعصريون، أولئك الذين يعرفون عن القانون الغربي أكثر مما يعرفون عن شريعة الله علمًا أنهم محسوبون علينا. هذه التبعية المطلقة تقابل المثل الذي يقول:”ملكيون أكثر من المالك” إذ ولاؤهم للسادة أكثر من ولاء السادة لأنفسهم، وهذا ما يسمى بالعقلية المستعبدة Slaved mentality أواستعباد العقول Mental slavery فالقانون الغربي من وضع البشر وقد يتفق في بعض مواده مع طبيعة الحياة التي ارتضاها الغربيون، والتي تنتفي فيها الأخلاق، وتسود فيها الأنانية والمادية… المادية النفعية الوصولية الاكتنازية. وهذا لا يتوافق مع ديننا الذي رسم لنا، وفرض علينا، أن نعيش لأنفسنا ولغيرنا باعتبار أن الحياة رحلة مؤقتة يتبعها بقاء أبدي يُجزى فيه المحسن بالثواب العظيم، والمسيئ بالعذاب الأليم.
أما بالنسبة لإثارة النعرات الإقليمية والعنصرية بالدعوة إلى الجنسيات الضيقة والتجزئة فهذا أسلوب استعماري غربي قديم لخلق البلبلة والاضطرابات والتقاتل ليتدخل الرجل الأبيض بذريعة فرض السلام والاستقرار، وبدافع “الحب والرحمة” لبني الإنسان “الأسود والملوَّن”، برغم تأريخ الرجل الأبيض المظلم الدامي الذي لم تعرفه البشرية من ذي قبل، والذي راح ضحيته مئات الملايين بفعل الإبادة بالآلة العسكرية المتقدمة، وعبر تجارة الرقيق في غرب أفريقيا، ومعاملة الأفارقة بالوحشية والاستعلائية!!!
فأسلوب “فرِّق تسُد” أسلوب قديم وإن تطور في أيامنا هذه إلى أشكال جديدة اكثر خبثًا ومكرًا، وأقدر على تحقيق الهدف منها. فتسليح الأقليات العرقية وإثارة الأحقاد بينها يُثري -على الأقل- تجارة السلاح التي يسيطر عليها الغربيون، كما أنها تُضعف أي نوع من أنواع الاستقلالية في القرار والمصير أو الخروج من محور السيادة المفروضة على المستضعفين تحت شعارات كاذبة وأقنعة زائفة!!!
هذا عدا محاولة خلط الأخلاق الإسلامية بالعادات والتقاليد والمفاهيم الوافدة، وبخاصة في ظل عقدة الأقوى السائدة في أيامنا هذه.
يقول العلامة ابن خلدون: “المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وعوائده… ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبدًا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه، في اتخاذها وأشكالها، بل في سائر أحواله”.
ولعل فيما قاله ابن خلدون تفسيرًا لما ذهبت إليه شعوب المستعمرات من تقليد المستعمر، بحكم تفوق الثقافة الأوروبية على غيرها من ثقافات ، حتى احتل الأمريكيون ذروة القوة والتفوق المادي في العالم، فأصبحت ثقافتهم على حداثتها هي الغالبة. فانتشرت الأزياء الأمريكية من البلوجينز والقمصان الزاهية كثيرة النقوش، وعبارات التحية، وموسيقى الجاز، والرقص الأمريكي، وامتدت إلى كل صقع من أصقاع العالم، حتى أصبحت هوى الروس أنفسهم على بعد ما بينهم وبين الأمريكيين من تباين في نظام المجتمع ونمط الاقتصاد وأساليب الحكم”!!!(٣).
فإن كنا -نحن المسلمين- مغلوبين أمام تقنية كمالات الحياة، ومتطلبات العصر الحديث، فلسنا مغلوبين في قيمنا ومثُلنا، بل بالعكس، فالغرب يكاد ينهار من جراء الأمراض الاجتماعية، والمشاكل الاقتصادية نسبة لافتقاره لعنصر الوازع الديني الذي يحول بينه وبين الوقوع في الآثام والخطايا، ولهذا لا ينبغي لنا أن نخوض مع الخائضين، بل علينا انتهاج الانتقائية في نقل الثقافات والموروثات! أما العلوم والمعارف فهي حق مشاع للجميع.
ونأتي إلى آخر محورين من أهداف التغريب، وهما:-
أولهما: محاولة تأليه العقل وتقديس العلم والدعوة إلى عبادة البطولة!
وثانيهما: محاولة الفصل بين الأدب والفكر، والدين والمجتمع، والدين والدولة، فهذه من موروثات الحضارة اليونانية – الرومانية التي كما ذكرنا قبلًا تؤمن بالمحسوس، وترفض الغيبيات، وتعبد القوة والبطولة حتى إن الغرب اليوم مدجج بالأسلحة الفتاكة المُدمِّرة، حيث القوميات والتعصب للجنس، وتقديس العلم والعقل واعتبار أنهما وحدهما يحلان مشاكل البشرية. بالإضافة إلى الفصل بين الدين والدولة، وذلك بسبب العداء التأريخي المشهور بين الكنيسة والعلم، وما تمخض عنه من ثورات وانقسامات. فالإسلام جِماع وكلٌ متكامل بين الأدب والفكر، بين العقل والقلب، بين الروح والمادة… والإسلام لا يُعادي العلم النافع، وإنما يعادي العلم المدمر الأخرق الذي عانت البشرية من ويلاته، وحضارة الرجل الأبيض هي وحدها المسؤولة عن ذلك كله!!!
١)أنور الجندي – تصحيح المفاهيم -ص ١.
٢)الأنفال : ٩
٣)د. حسين نجار – الإعلام المعاصر- ص٧٨.
*خبير استشاري في التدريب التطويري الذاتيوالمؤسسي، والإعلام التطبيقي بخبرات دولية
taheel22@gmail.com