مريم الشكيلية
في الماضي القريب لم تكن مواقع التواصل الاجتماعي لها وجود، وكانت الصورة الوحيدة التي تُنقل لنا تكون عبر شاشات التلفاز الذي يقتصر على نقل البرامج المتنوعة التي كنا نختار منها ما يناسبنا، وفي مجملها كانت برامج للتعلم والترفيه.
وكانت برامج التلفاز تتضمن أيضا أخبار عن مآسي الشعوب، لكننا كنا نحجب عن متابعتها، وكان البعض منا لا يمتلك على جهاز التلفاز الخاص به أي قنوات متنوعة، وتقتصر مشاهدته على القليل من مما يعرض.
في هذا الماضي القريب كانت حياتنا واقعية، نعيشها بكامل إدراكنا، كانت تفاصيل حياتنا كلها نعيشها ونلمسها دون تجزئة أو تشتت، دون عالم آخر بعيد عنا، كنا نعيش حياة واحدة مهما كانت الظروف والتحديات التي تواجهنا في هذه الحياة، وكنا نسعى لتحسينها بالإمكانيات المتوفرة لدينا.
في ذلك الوقت كانت لدينا قناعة من نوع ما بالحياة التي نعيشها، وعلى الرغم من صعوبتها أحيانا إلا إننا كن نعيشها ونتعايش مع صعوبتها بواقعية تامة، البعض يجتهد وتمنحه الحياة فرصة لتكون حياته يسيرة وسهلة، والبعض الآخر يتكيف مع ظروفه بقناعة ورضا.
حقيقة الحياة في صورة كيف هي؟
مع ما أنتجه العصر الحديث والعولمة ظهرت برامج التواصل الاجتماعي ومواقع وتطبيقات لم يكن لها وجود قبلا، وفي السنوات الماضية القليلة وحتى الآن صارت هذه التطبيقات والمواقع ملازمة لنا، ولا يوجد بيت إلا وأفراده يمتلكون تطبيقا أو أكثر من هذه التطبيقات، حتى وصل بنا الأمر الآن إلى إن البعض منا يقضي كل الوقت وهو يتصفح ويتابع هذه التطبيقات، دون أن يقضي وقتا واقعيا في حياته اليومية.
هذه التطبيقات والمواقع جعلتنا معتقلين خلف قضبانها مقيدين بالكم الهائل من الصور والفيديوهات التي نشاهدها، وكأننا انتقلنا للعيش عبر شاشة وفي زوايا هذه التطبيقات.
الآن نحن نعيش حياتين، الأولى حياتنا الملموسة والواقع الذي نتعامل معه، والثانية حياة الصورة التي باتت جزءا منا، نتفاعل معها فقط بحواسنا المرئية وعواطفنا وأحلامنا دون أي جهد منا.
لقد أسرتنا هذه التطبيقات وأدخلتنا في تفاصيل حياة الآخرين، نتابع يومياتهم وبيئتهم وحياتهم التي لا تمت لنا بأي صلة فقط نحن متابعين لها، ويأتي هذا في الوقت الذي يتطلب منا بذل الجهد لتحسين حياتنا وواقعنا والنهوض بما يلزم لحل مشاكلنا، هذا الجهد الذي يتطلب فكرنا ووعينا وتركيزنا وإدراكنا الناضج، وليس فقط الجهد الجسدي فحسب، وكأننا آلة بلا حس نعيش واقعا غير واقعنا وانفصلنا عن أحلامنا وأفكارنا، وأصبحت مشاعرنا منصبّه تجاه صورة ومتابعة يوميات الآخر، وكأننا أشخاص منفصلين عن أنفسنا.
مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقاتها لا يقتصر أثرها على المتلقي لها أو المتابعين لها فقط، ولكن أيضا على صاحبها، فهذا المشهور أو المدوّن أو المعروف يعيش هذا الجَهد أيضا فهو يعيش تحت تلسكوب الناس وأنظار المتابعين له، ومع أي حركة أو فعل يصدر منه يتبعه ردة فعل قد تكون معه أو ضده.
هذا الشخص المشهور يصبح وكأنه مطالب بكشف تفاصيل حياته حتى الخاصة منها، والمتلقي لها يكون الحَكم فيها، وإن حدث وصدرت منه عفوية السلوك أو ردة فعل مفاجئة كونه بشرا قبل أن يكون مشهورا تنهال عليه الانتقادات، وأحيانا تصل إلى انتقادات جارحة.
لقد أصبح هذا الشخص المشهور مطالبا بالكشف عن تفاصيل حياته الدقيقة للمتابعين، ما يفعله في بيته وماذا يأكل وماذا يشرب وإلى أين يذهب ومن أين عاد، وكأن المتابع يعيش معه كل أوقاته من خلال تطبيق الصورة أو الفيديو.
هناك اختلاف كبير بين المتلقي أو المتابع للتلفاز وبين المتلقي أو المتابع للتطبيقات الإلكترونية، فالمشاهد للتلفاز يتلقى رسالة أو معلومة أو معرفة، أما الآن أصبح الأمر أعمق وأقرب واصبح بإمكان المتابع محادثة ومحاورة صاحب التطبيق أو الشخص المشهور وإبداء الرأي فيما يفعله وما يقوم به وما من تفاصيل خاصة عن حياته الشخصية.
لقد ألزمت وسائل التواصل الاجتماعي الشخصيات المشهورة بهذا الوضع وحتى لا يخسر متابعيه ينفذ ما يطلبون حتى لا تقل نسبة شهرته، وتجده يجتهد في إيجاد طرق للتفاعل معهم وتوضيح ما يصدر عنه عفويا أثناء الحديث أو التصوير اليومي على منصات التواصل إرضاء لمتابعيه.
وفي المقابل أيضا هناك المتابع الذي يقضي جل يومه في متابعة حياة الآخرين عبر شاشة الهاتف، ومع كثرة المتابعة يتحول إلى مدمن لمنصات التواصل الاجتماعي وتتغير حياته وتنقلب رأسا على عقب، وتجده كثير التذمر ورافض لحياته الواقعية، لما يجد فيها من صعوبات مقارنة بما يراه من حياة المشاهير.
إن الصورة التي يصدّرها المشاهير للمتابعين يجتهدون لكي يجعلونها في هيئة وشكل جيد من حيث اختيار الأمان التي يتم التصوير فيها وجودة التصوير وغير ذلك، مما يشعر المتلقي أو المشاهد أن حياته أٌل بكثير من حياة هذا الشخص ويولد لديه شعور عدم القناعة بحياته الحقيقية.
هذه الظاهرة تعمل على تبديل أفكار المتابعين وتخلق بداخلهم روح التمرد على الوقع الحقيقي للحياة خصوصا النساء والفتيات اللاتي يثقلن على من يعولهم ويطالبنوه بتوفير حياة مشابهة لما يشاهدونه في هذه التطبيقات حتى لو على حساب غيرهن، مما ينتج عنه أنانية وتحميل الغير مالا يحتمل.
على الرغم من متابعتنا اليومية لما يفعله المشاهير على صفحاتهم الشخصية على منصات التواصل الاجتماعي إلى أننا لا نعرف ماذا يحدث خلف الكواليس لظهور هذه الصورة لنا.
لقد أصبحنا مأخوذين بهذه الصورة الافتراضية الأمر الذي جعلنا لا نفكر فيما يحدث خلف كواليس هذه الصورة التي تصل إلينا في النهاية.
*الصورة من محرك البحث العالمي جوجل