علي بن جعفر اللواتي / مهندس معماري
فقد الوسط المعماري العربي والدولي مساء العاشر من ابريل 2020م في عاصمة الضباب لندن آخر الرعيل المعماري من جيل الروّاد في خمسينات القرن الماضي ممن ارتبط المجد بمدينة بغداد العراقية والمدن العربية الأخرى باسمهم، وذلك إثر تدهور حالته الصحية نتيجة جائحة كوفيد-19.
ولد (الدكتور/ رفعة بن كامل الجادرجي) ببغداد في ديسمبر عام 1926م لأسرة عراقية سياسية عريقة؛ فكان جدّه (رفعت أفندي الجادرجي) سياسيا بارزا في العهد العثماني وكان رئيسا لبلدية بغداد. وكذلك والده (كامل الجادرجي) كان سياسيا لامعا وبرلمانيا ووزيرا، إلا أن (الدكتور/ رفعة الجادرجي) توجّه نحو مدارس الفنون والفلسفة؛ فبعد إتمامه الثانوية في العراق عام 1948 التحق بمعهد (هامر سميث) للحرف والفنون في المملكة المتحدة لدراسة فنون العمارة والتصميم، وهناك في لندن صاحب الفنان التشكيلي العراقي (جواد سليم) وتأثر بتقاطع العمارة مع الفنون والفلسفة، ولعلّ ذلك ما جعله لاحقا يتجه إلى تنظير فلسفته الشهيرة المسماه بـ(جدلية العمارة).
عاد الجاردجي إلى العراق منتصف الخمسينات ليؤسس مكتبه الاستشاري، وفي ذات الوقت التحق للعمل بوزارة الإسكان العراقية وتدرّج في عدد من المناصب حتى أصبح وكيلا للإسكان ومستشارا لأمانة بغداد إلى حين مغادرته العراق. تضمّنت مسيرته المهنية مبانٍ سكنية وأخرى رسمية وأعمالا فنية، ميّزتها محاولته التصميمية الجادة للخروج من الإطار التقليدي إلى إطار آخر جديد ومعاصر في العمارة العربية. كانت من أبرز هذه المحاولات تصميمه لمشروع شركة التأمين الوطنية العراقية حيث ابتعد عن نسخ العناصر القديمة لانتاج مسار جديد، وكان استخدامه للطابوق الآجر الى جانب مواد تشكّل أبجديات الحداثة كالاسمنت والزجاج والقائمة على الميكنة. لم يكن عملا مشابها لما سبقه ما اعتبره النقّاد عملا محليا لتعريب الحداثة.
كان الراحل من الجيل التالي لمعماريي العراق بعد جيل المعمار (الدكتور/ محمد صالح مكيّة)، ويعدّ أهم رموز الحداثة المحلية في المنطقة العربية ممن قدموا أعمالا معمارية للوسط الثقافي العربي تتجاوز إشكال الحداثة التي لا زال المعماريون والمثقفون العرب في منطقتنا يطرحون ذات السؤال رغم قِدمه في رحلة للبحث عن حل لمشكلتهم المعقّدة مع الحداثة.
إضافة لكونه اسما لامعا واستثنائيا في العمارة فهو فنان تشكيلي وأستاذ أكاديمي وباحث اجتماعي وناقد وكاتب ومفكّر ومنظّر، وكفاه فخرا تسميته بـ(فيلسوف العمارة). كان في الثمانينات أستاذا زائرا في معهد (MIT) وفي (جامعة هارفرد) لتدريس مادة فلسفة العمارة ومن ثم انتقل من قسم العمارة إلى قسم الفلسفة ليكون أحد القلائل إن لم يكن الوحيد من روّاد العمارة ممن اشتغلوا في الفلسفة. ترك مجموعة من الكتب والدراسات الفلسفية والأنثروبولجية أبرزها:
- (الأخيضر والقصر البلوري) وهي نشأة نظرية جدلية العمارة.
- (شارع طه وهامر سميث) وهي سيرة ذاتية تضمن بحثا لجدلية العمارة وكانت النواة الأولى لبلورتها.
- (في سببية وجدلية العمارة) حيث شرح النظرية بالتفصيل وحاز الكتاب على جائزة الشيخ زايد رحمه الله للكتاب ولعله الكتاب الأشهر والأبرز في مسيرته.
- (دور المعمار في حضارة الإنسان)، حيث ان التقدير في المجتمعات لمهن الطب والهندسة إلا ان لمنة العمارة دورا في بناء الحضارة وهو من أفضل مؤلفاته.
- (صفة الجمال في وعي الإنسان) كتاب فلسفي في مسيرة الجاردجي مع التطور الحضاري ونشأة الإنسان العاقل ورغبته في البقاء وحاجاته النفعية كالمسكن من جهة وحاجاته الجمالية من جهة أخرى، يناقش عن العلاقة بينهما.
- (جدار بين ظلمتين) يروي الجزء المأساوي من حياته في السجن كتبه مع شريكة حياته الكاتبة د.بلقيس شرارة.
- (صورة أب) سيرة كتبها عن حياة والده الراحل السياسي العراقي كامل الجادرجي.
- (مقام الجلوس في بيت عارف آغا) وهي دراسة أنثروبولجية عن تشكيل الهوية.
- (حوار في بنيوية الفن والعمارة)
- (فوتوغراف)
- (Concepts and Influences) باللغة الإنجليزية.
هناك الكثير ليقال عن الراحل ولكن نظرتي اليه كانت نظرة التلميذ إلى الأستاذ وقد تشرّفت بإجراء آخر حوار إذاعي معه، وكان ظهوره الإعلامي الأخير في مسيرته المهنية لصالح برنامج (العمارة المستدامة) عبر أثير إذاعة سلطنة عمان، حيث زرته في منزله في لندن بعد التنسيق مع حرمه الكاتبة (بلقيس شرارة) قبل وفاته بشهرين، ورغم حالته الصحية الصعبة كان يلح علي: (اسألني). كان يسر جدا للقاء الطلبة رغم صعوبة النطق لديه. وجهت إليه سؤالا عن واقع العمارة اليوم فأجاب:
- “العمارة مثل أي شيئ آخر تتقدم مع البلد وتتخلف مع البلد وفي الوقت الحاضر نحن نمر بمرحلة تخلف وهي ظاهة بالعلوم والفنون والسياسة التخلف موجود بها.”
سألته عن الحل لواقعنا المعاصر فأجاب: - “الحل في التعليم والإلحاح في التعليم.”
قلت له ان هناك توجهات مختلفة في التعليم المعماري وهناك التعليم التقني واستخدام الحاسوب في عملية التصميم فما رأيك في استخدام التكنولوجيا مقارنة بالأساليب الأولى؟ - “الورقة والقلم هي أداة، والكمبيوتر هي أداة وآلة مثل أي آلة أخرى، ولا يمكن للكمبيوتر أن يتحكم بالانسان بل الإنسان هو الذي يتحكم بالكمبيوتر.”
كان جوابه أن التصميم الرقمي هو الأداة وليس العقل الذي ينتج التصميم، ثم سألته عن كتابه دور المعمار في حياة الإنسان الذي قال فيه ان مهنة العمارة لم تأخذ حقها، فكيف يأخذ المعماري دوره اليوم ومكانته في المجتمع؟ - “يتوقف ذلك على تطور الحضارة في المنطقة والمعماري يأخذ دوره من ذلك كأي شيئ آخر كالرسم والنحت والعلوم عامة كلها تتقدم مع النشاط الحضاري وتتخلف مع الانهيار الحضاري.”
ثم سألته عن وصية يوصيها للشباب المعماري الصاعد: - “الوصية التي أوصيهم بها هي قراءة تاريخ العمارة كثيرا.”
وقبل توديعه سألته عن موقف المعماري العربي اليوم من التراث والحداثة فأجابني: - “دعوا الشباب يصمموا بكل حرية”
فأردفت حرمه د.بلقيس شرارة مقاطعة: - “وبدون توجيه؟!”
فقال: - “توجيه وليس وصاية.”
يرتحل الجادرجي عن هذه الدنيا تاركا كنزا معرفيا وعلميا قلّ نظيره ما أهلّه ليكون أحد أهم الأقلام في العمارة والفنون، وكسب احترام المجتمع المدني لاسهاماته في تطوير مهنة العمارة، وقد كرمته الجمعية الملكية للمعماريين البريطانيين بعضوية فخرية وكذلك الجمعية الأمريكية للمعماريين، وفي العام 1986 حاز جائزة الآغا خان للعمارة التي تعتبر الأكبر في المجتمع المعماري. كذلك كرمته مؤسسة التميز المعمارية بجائزة الإنجاز مدى الحياة في دورتها عام 2015 ومن ثم أطلقت جائزة سنوية باسمه، وهناك جائزة أخرى للطلبة في لبنان من مؤسسة الجادرجي للعمارة والمجتمع تقديرا وامتنانا لدوره وتأثيره على العمارة العربية.
المصادر:
- (Layout،2017)، رفعة الجادرجي: الحداثة في قالب محلي،]مدونة الكترونية[، المملكة العربية السعودية، تم زيارة الرابط بتاريخ 14/4/2020م: http://layoutmeg.blogspot.com/2017/05/blog-post_3.html
- اللواتي، علي جعفر (2018)، المعماري العراقي رفعة الجادرجي، برنامج صنّاع العمارة ]ملف صوتي تم بثته بتاريخ 5/7/2018[، مسقط، إذاعة سلطنة عمان
- اللواتي، علي جعفر (2020)، حلقة خاصة عن المعماري د.رفعة الجادرجي، برنامج العمارة المستدامة ]ملف صوتي بم بثته بتاريخ 1/3/2020[، مسقط، إذاعة سلطنة عمان.
- شرارة، بلقيس، (2020) رحيل المنظر والمعمار رفعة الجادرجي، جريدة المد