غرباء نذرع بلاط المسافات تتجول أعيننا متفحصة وتد التغيير، تحركنا المقارنة وتقاربنا الأمنيات، وقفت في الممر ما بعد بوابة دخول المغادرين أتفقد الأشبار التي لم تنطلي عليها صبغة الحزن، أخذني العمق في التفكير أو غدوت شاردة بعمق، ماذا يقصدون دائما بسنة الحياة وهل هي الحياة التي تسن عواطفنا أم نحن!
أم هو ديدن العواطف تنبثق من اللاوجود، أعلم جيدا أو علمتني توابع الحياة ان أشبار الأرض قد تئن، ما سبب تمسكنا بالأماكن ونحن الذين نزعم أن الوطن ليس مجرد حدود و رمل وبحر، فلماذا عجزنا أن نخلق لنا وطنا في كل أرض أو نزرع وطنا في كل بيت، أو حتى مساحة قليلة في كل قلب، ما الذي يجعلنا مرغوبين عند بشر وغير مريحين عند آخرين اليست هي آيضا سنة القلوب؟
كندفة ثلج سقطت فحركت أرنبة أنفي لأرتجف استذكارا بغزة بعد أن وترت رايي شعارات السلام وصفقة القرن ترفع رايتها الرمادية المدهونة بالبياض بعد أن تذبذبت بين ستين عاما من الأسر والاغتيال والقصف والتهجير والتشريد والتخييم، فكيف ستنطبع على أولئك خدعة الوطن الجديد، وكيف بمن هم على اختلاط وتماس وعيش مع الصهاينة ويدرسون مقرراتهم التعليمية ويعلمون أن التاريخ مزور وان الحقيقة مسلوخة وان شجرة الزيتون زرعها جدهم وان الأرض لهم والحق لهم ولكن روزنامة المصالح عليهم والتقويم مقلوب!
مضيت في تلك الدهاليز الباردة تستلمني أوجه العابرين، واستلم بالفضول وجوههم، على مناضد التسجيل وجوها بملاح القارات ومزاج الفصول، كنكتة سخيفة رأيتها لوهلة ان نطرد كل هؤلاء من الأعمال لننعزل!
لا أعلم لماذا احيانا نطلق بعض المطالبات بصخب، وبعد كل انطلاقة غضب لانعترف اننا كنا متطرفين، نتخلص من حقائبنا ونحن الذين رتبنا محتوياتها لتخدمنا وكقيد ثقيل انعتقنا منه فسبقتنا لتأخذ مكانها بين العفش والجثث ومواد التخزين،
هل قلت جثث؟!
نعم هناك موتى مسافرين أسفل المقاعد وفوقها، يحدث أن يتجزء موت البعض ويموت بداخلهم كل شيء، وتتشرح ذواتهم وهم على الأرض يمشون
أقلعت بنا الطائرة وصوت الطاقم عبر ناقلات الصوت يبث طرق النجاة واتخاذ اللازم عند أي طارئ، لأعترف بشيئ انا لم اقتنع يوما بكل تلك التنبيهات فأنا على ثقة شخصية بنفسي إن في حالة حدوث كارثة ما فأنا ستنشل عندي الذاكرة ولا وقت عندي لأداء تلك الطقوس أساسا وربما من فرط البطولة أموت مرعوبة قبل السقوط!
كانت المسافة ساعة تمكنت على الاقل فيها من قراءة ثمان صفحات من كتاب وجه لوجه عن سيمون ديبفوار وسارتر، للتو فقط عرفت أن سيمون كانت من عائلة محافظة وقد درست الفلسفة في السوربون وكان ذلك بمثابة الذنب أيامها وانتهاك ومحرمات، لقد صنعوا فارقا كفريق يجتمع لمناقشة الفكر والفلسفة في أواخر العشرينيات من القرن المنصرم هي وسارتر وماهو وبول نيزا، انتشلني صوت الطيار من قمرة القيادة وهو يعلن عن قرب الوصول للدوحة
في الترانسفير أو كما ينطقونها أهلنا بعد التعريب كحالتهم مع باقي الكلمات الأفرنجية المعربة يسمونها ترانزيت، دخلت مطار حمد الدولي بضخامته ووسعه وطوله بدا لي خاليا صامتا على غير ذلك الصخب المعتاد في المطارات حتى الرحلات المحولة منها، كانت الإجراءات سريعة ما إن ولجنا إلى صالة القادمين حتى ذهبنا لإنهاء إجراءات الرحلة الثانية إلى اسطنبول، كنت اتفكر في الموظفين في المطار كانت السحنة الأفريقية حيثما وليت حاجتي، شعرت ان وجوههم غاضبة يمتاز تعاملهم بالخشونة، كنت أشير لهم بالجهاز المزروع في قلبي واني لا استطيع المرور من الحواجز المغناطيسية لما فيه من تأثير الجهاز وبرغم أني أبرزت لهم البطاقة الصحية والتي تمكنني من السير دون المرور على أفخاخهم إلا أنهم يعملون على مبدأ التعامل المرتاب والحذر في ذات الوقت حتى عبرت بسلام.
عند ولوجي إلى أرض الطائرة كنت أعلم أن هناك خمس ساعات ليست باليسيرة على متنها ستمر وأنا التي تكره ان تجلس في ذات الأماكن اكثر من ساعة، بدأت أقارن بشيء من الإنصاف اللامتحيز، تمتمت في داخلي يبدو أننا نظلم الطيران العماني ونحبطه اكثر من المعقول، حين أحضرت المضيفة الوجبة الخفيفة حدقت في وجهها طويلا بطريقة جعلتها تقلق من تفاصيل تعجبي، حدثتها بالإنجليزية كيف لي أن أكل بشوكة وملعقة وسكين مرت علي آلاف الأفواه قبلي، لم اقتنع بتبريرها إنها مغسولة ولكن هل ما زال هناك من يستخدم أدوات الطعام المعدنية متعددة الاستخدام؟!
عدت لكتابي الذي أنهيت قرابة الثلاثين صفحة وأكثر وقد أسعفتني باكورة الغروب أن اصل إلى مطار أسطنبول بالوصول لا أعلم لماذا مثقلة انا بالتفكير بالتفاصيل كنت أنظر المناضد التي يذهب إليها رعاياهم بسهولة ومسكنا رقما ليس بالقصير مع باقي المسافرين من دول العالم، يبدو أن الأوطان تنتأ لنا في كل لحظة ولسان حالها يقول: آما زلتِ تتوقين للعيش على غير أرضك كمهاجرة؟.
إنها عبثية الحياة التي يمر فيها فكرنا في مراحل فليس دائما الحل هو الصراخ والانتقاد ولكن حين ننادي بالاصلاح فلا بد أن نبدأ اولا من الداخل وليس داخل العام والمؤسسات والقوانين فحسب بل ان الإصلاح هو قرار مسؤوليتي كفرد اتجاه كل الأشياء، ابتسمت وانا استذكر المثل الصادق الشعبي بقوله” بلادي وإن جارت علىّ عزيزة وأهلي وإن بخلو علي كرام.