سالم بن حمد الحكماني
لا شك بأن الرحيل إلى الدار الآخرة سنة من سنن الحياة الفانية وكلنا راحلون لا محالة أيا كان البقاء طال أم قصر ، فالموت مكتوب على كل البشر وكأس المنية لا بد وأن يتجرعه كل إنسان بل كل مخلوق على وجه هذه البسيطة، إلا أن الراحلون تبقى ذكراهم الطيبة في القلوب بقدر ما قدموا من أعمال خير وإنجازات عظام ومنجزات تعلو بعلو شأنهم وقدر مكانتهم سواء كانوا احياءا أم امواتا ، ويبقى حبهم الأبدي علامات فارقة في كل القلوب كغرس حمل ثمارا يانعة طيبة المذاق أكل منها كل ذي كبد رطبة من انسان او حيوان او طير واكل منها كل جائع وعابر سبيل فظلت حلاوة هذه الثمار الطيبة ممزوجة بلعابه لا يفارق طعمها الطيب الحلو أحاسيس لسانه ومذاقاته .
رحل الرجل العظيم المغفور له بإذن الله السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور – طيب الله ثراه – رحيلا أبديا آخذا معه كل القلوب شوقا وحزنا وألما على فراقه ، حدث عظيم ومصاب جلل وفقدان كبير ويتم لكل النفوس والقلوب ، فجلالة السلطان قابوس بن سعيد – رحمه الله – قامة مجد تهادت من علاها ، وشموخ عز طاول عنان السماء ، وسمو مكانة عادت لعمان امجادها التليدة ، وحافظت على ارثها الحضاري الشامخ وثقافتها العريقة ، فعلت من مكانتها العظيمة بين الأمم والشعوب.
ترجل الفارس المهاب ، ترجل الطود الشامخ المتواضع للصغير والكبير ، ترجل الرجل الحليم والسلطان العادل بعد حياة مديدة بالخير وعصر ذهبي ماجد امتد لنصف قرن من الزمان ، في عصره الذهبي وإبان حكمة الزاهر وئدت الفتن واندحرت القبيلة وتصالحت المذاهب تجمعها كلمة التوحيد خالصة لله تعالى .
ترجل حبيبنا ومولانا ووالدنا وعظيمنا وفقيدنا الكبير عن فرسه تاركا عمان وهي ترفل في حلل المجد بعد أن صانها وصان كرامتها وأعاد لها هيبتها بين الأمم ، فكان حكيم زمانه ، إليه تشد الرحال في الشدائد ، كان مرجعا لكل أمر عظيم غلب على أهله علاجه وإيجاد حلولا مناسبة له ، فكان قابوس – طيب الله ثراه – بيت الحكمة والبصيرة الثاقبة والعقل المستنير ، معه مفاتيح الحلول لكل أمر جسيم أشكل على أهله حله ، أصبحت عمان في ظله وتحت حكمه منارة المتخاصمين التي يتم اللجوء إليها في الضراء ، فبها رجل بل حكيم لا يضيع على يديه حق ، ولا يراق في حضرته دم ، ولا يخاصم شقيق شقيقه ، كم حلت على يديه الكريمتين معضلات جسام ، ومشكلات عسام ، وكم خمدت بحكمته نيران الفتة والشتات والشقاق بين الأشقاء بعضهم بعضا وبينهم وبين أطراف أخرى متنازعة ومتناحرة .
رحل قابوس الحكيم حيا وميتا ، أحب عمان وشعب عمان من قلبه الرحيم المخلص لبلده فاحبته عمان وشعبها قاطبة من أقصاها إلى أقصاها … الكل يعرف حكمته المعهودة ورجاحة عقله المشهودة وهو على كرسي الحكم فلا مجال لذكرها ولو ذكرناها وسردناها فإن مداد القلم يعجز دونها ، وضحالة الكلمات تضمحل في حضرتها وتصاريف الحروف والكلمات تصاب بالشلل أن تعدها أو تعد محاسنها ، لكنني ساختصر حكمته وهو راحل إلى ربه حاملا معه حب عمان وشعبها الوفي واخلاصه الكبير لهما ، تجلت حكمته طيب الله ثراه واسكنه واسع الجنان في أمور كثيرة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر :-
وصيته المتواضعة والمكتوبة بحروف الوفاء والإخلاص والحب لعمان وشعبها والمتمثلة في الانتقال السلس للحكم وبأنه اختار ببصيرته الثاقبة وبعد نظره الحصين صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور المعظم -حفظه الله- ليكون السلطان من بعده ، فكان نعم الاختيار بموافقة الجميع من أفراد الأسرة والعائلة الكريمة وبرضى الجميع وهنا نلتمس وعيه الكريم رحمه الله وتوسمه خيرا فيما اشار به حاكما للبلاد من بعده كما أشار في وصيته ، وكذلك وعي وحكمة جميع أفراد الأسرة الحاكمة الكريمة بالموافقة تقديرا للمغفور له بإذن الله تعالى جلالة السلطان قابوس وحبا لعمان الخير وتجنبا لكل مكروه وفرقة وشقاق وشتات من بعد رحيله ، فكانت الحكمة في هدوء انتقال السلطة والحكم بأمن وأمان وهما دوما معهودين في القيادة العمانية الحكيمة .
الأمر الثاني في حكمته وصيته -رحمه الله وطيب قبرا هو ساكنه- أن تكون جنازته جنازة الميت المتواضع بين أهله وشعبه ومحبيه فكان له ما أراد فقد خرجت الجنازة على أكتاف أبناء أسرته وعائلته وأبنائه من العسكريين والمخلصين من أبناء شعب عمان ومحبيه والداعين له بالخير وان يتغمده الله بواسع رحماته في جنات الخلد ، وكان بالإمكان تهويل هذه الجنازة ليحضرها كل عظيم في شأنه من ملوك ورؤساء وحكام وغيرهم وهم على استعداد تام لحضورها؛ لأن الراحل عظيم الشأن ويعرفه الجميع ، فاقواله وأفعاله وسيرته لا تخفى على أحد ، لكنه ذهب إلى ربه خفيف الجانب ، قرير العين بما قدم من خير ، مؤمن بقضاء الله وقدره ، متوكل على الله باخلاصه ونيته الصادقة وحسن نواياه الطيبة ، تتبعه دعوات أبناء شعبه الصادقة كبيرهم وصغيرهم ، رجالهم ونساؤهم ، داعين له بالرحمة والمغفرة والرضوان إلى جوار رب راض غير غضبان ليتغمد روحه في أعلى فراديس الجنان .
ثالث الأمور الجميلة دفن جسده الطاهر بعد صبره الطويل على المرض والاحتساب على الله الأجر في مقبرة الأسرة الحاكمة الكريمة في قبر كقبور غيره من الموتى المسلمين ، لا فرق بينه وبين قبور الموتى الآخرين ، لم يوصي – طيب الله ثراه واسكنه فسيح جناته – بأن يجصص القبر او ان يعمل له مناره شامخه تميزه عن غيره من القبور لعلمه الأكيد أن ذلك لن يزيده شيئا ولن يغني عنه شيئا ، فهكذا عهدناه رحمه الله عقلا راجحا في كل الأمور ، يزن الدنيا والأمور بموازين الحكمة والعقل الراجح السليم ، ولأنه أحب الناس ودولته وشعبه وأبناء جلدته فإن الله تعالى قد كتب له حب الناس أجمع ليس في عمان فحسب بل في كل الدنيا ، فقابوس الراحل والفقيد العظيم احبته الدنيا واحبه الناس أجمع ومحبة الناس للإنسان في الأرض من محبة الله له في السماء .