عائشة عبدالله محمد المجعلي
ليس هناك ما هو أكثر بلاغة وأشد إقناعا من لحظة الذهول الممتدة زمنيا إلى وقتي هذا، ولم يطالب فيها أحد -في هذا الإطار الزمني بالتحديد- بإسدال قائمته مفسرا بها ومبررا حزنه وذهوله المفجع لرحيل السلطان قابوس، ذلك الحزن الذي ألقى بثقله على الأرض الواسعة.
قبل أن أكتب مقالتي هذه تريثت أسبوعا تاما منذ لحظة الفقد الأولى التي عاشها الشعب العماني بعد فرح امتد لخمسين عاما، لحظة رحيل الأب والقائد السلطان قابوس رحمه الله، في محاولة مني أن أنتصر على سُلطة الحزن لأجل واقعية الكتابة، ولكن الحزن الذي يجتاح شعبا بأسره لم يذر من شيء أتى عليه إلا جعله مجردا من الواقعية والبديهية.
لحظات الفقد الموجعة عبارة عن حالة لا يمكن لأحد أن يفسرها تفسيرا سياسيا أو اجتماعيا، تنأى بنفسها عن أي نظام أيديولوجي قد تختزل فيه.
إن الفرحة الأولى التي عاشها الشعب العماني منذ استقبل فيها السلطان قابوس -طيب الله ثراه- في 23 يوليو 1970 هي الفرحة الأولى والسرمدية التي ظلت تحف عمان وتطوقها، لم تبهت ولم تتلاشى إلا في يوم الحزن الأكبر، يوم إعلان الرحيل في العاشر من يناير من عامنا هذا.
وحقيقة؛ لقد عرفنا الحزن العام -إن صح التعبير- ذلك الشعور الذي يتشاركه الشعب منذ أن استشعر فيها بمرض السلطان قابوس أي منذ العام 2014م وكأن حنظلة زُرعت في القلوب، تضخ مُرّها إلى سائر الجسد العماني.
إن العلاقة التي نسجت أمشاجها لخمسة عقود بين السلطان قابوس –طيب الله ثراه– وشعبه يصعب تفسيرها وتأطيرها وفق نظريات السلطة، فإن فسرناها بمبدأ التعاقد أو ما يطلق عليه بالبيعة بين الحاكم والمحكوم في الدين الإسلامي، فإن العلاقة التي تنشأ بين السلطة والشعب هي علاقة التبادل، وهي صورة شبيهة بالعقد الاجتماعي، حيث يتنازل الشعب عن بعض حرياتهم للسلطة وفي المقابل تقوم الأخيرة بدورها بتنظيم شؤون الشعب والوقوف على مصالحهم، ولكننا لم نشعر برهة بعلاقة التبادل هذه، لم يقتص شيء من شيء نملكه أو نتطلع إلى امتلاكه.
و إن فسرناها وفق تأطير النظريات السياسية فليست ذات إطار ماركسي ولا رأسمالي، لا شئ من هذه الأطر يتماشى أو يتماهى مع الحالة غير المتكررة، هذه الحالة التي نستطيع صياغتها بصيغة الظاهرة مع كل ما يتبع الظاهرة من سمات وعلامات، هذه الظاهرة التي تنسف ثبات المقولة “بأن العرب لا يجمع شتاتهم غير طاغية ظالم أو ملك حاكم”، ففي مقدمة ابن خلدون في الفصل السابع والعشرين قوله: “العرب لا يحصل لهم الحكم والملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو لآية أو أثر عظيم في الدين والسبب أنهم أصعب الأمم انقيادا بسبب الغلاظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرياسة”.
ولكن هنا في موطني قد اجتمع شمل أفاضل العرب ليس على طاعة الأمر والولاء للحاكم، بل على الوفاء والولاء له في حياته وفي مماته، وكأنه يهدي حاكمه حيوات أخرى، حياة في دعاء وحياة في صدقة وحياة في أفئدة الأجيال القادمة إرثهم في ذلك الحب و الوفاء.
فهل هناك تفسير عادل لهذه العلاقة؟ أم أن خير الأمور وأزكاها تلك التي لا تفسر!.