محمد المبارك خالد التيرابي*
قدِمتُ إلى كوالالمبور مؤخراً بعد فُرقة جاوزت العام، وبعدما تركت ورائي أقواماً لا زالوا يخوضون في الحديث عن تجربة ماليزيا التنموية الرائدة، فبرغم أنها دولة ناشئة لكنها واسعة الإدراك، سريعة العطاء، باهرة النجاح، ولا يدري أكثرهم ما وراء ذلك الإقدام الفتيِّ الوثَّاب إنجازاً وعطاءً مذهلاً مقارنة مع غيرها من دول بطيئة الحركة، شحيحة النماء، غائمة النظر، برغم ما تمتلك من موارد بشرية ومعدنية وزراعية ومالية كبيرة!… ولا ريب أن ذلك يكمن في مقدار وقدرات الاستثمار المعرفي النوعي وليس الكمي والذي يُعنى بالكفاءات المبدعة قبل الشهادات المحمولة… الاستثمار داخل الإنسان الماليزي بدافع التوجه المفطور والمكتسب نحو التغيير والتطوير في صمت مطبق وعمل دؤوب، بعدما فطن قادتها وعلى رأسهم الأسطورة السياسية النادرة (الطبيب) مهاتير محمد إلى ضرورة بناء الإنسان المبدع على مراحل وطرائق شتى وفي فترة وجيزة بعيداً عن مقومات اللغط والخلط والخبط السياسي التي غدت مرضاً مزمناً في بعض الدول حتى أعجزها عن تقديم الأمثل والأفضل… في حين إذا صدقت النوايا والهمم ينعكس ذلك خيراً عميماً في بنيتها التحتية وسطوتها العلمية الصناعية والاقتصادية بوجه عام!!!
وأهم ما فطن إليه عباقرة القيادة والإدارة الهادئة في ماليزيا ضرورة التعليم النوعي بالتعلُّم -وليس بالتلقين- بالمجهود الشخصي والمشاركة والتحفيز والاستقصاء ومراقبة ومحاسبة الذات.
هذا بالإضافة الى الاستعداد المتفرد بوجه عام للشعب الماليزي متعدد الأعراق للمضي قدماً في سبيل الرفعة والتقدم كما سبق وأن أشرنا، وذلك بسعة صدره للنقد والتوجيه… بتقبل الفكر الآخر السديد والتعاون المثمر… بالتخطيط الإستراتيجي قصير وبعيد المدى… بالصبر والمداراة، وغير ذلك من مرتكزات السيادة والريادة.
تجربة ماليزيا الرائدة تلك من المفترض أن تقدم لبعض الدول في شكل دورات تدريبية أو محاضرات ولكن لا يريد البعض -بكل أسف- أن يفهم ضرورة إقامة تلك الدورات والمحاضرات ربما لضعف وفقر جاهزيته لها، كما أن القيود الإدارية والبيروقراطية… السرية والعلنية تحول دون توصيلها للطموحين من القوم، وهكذا يتعلل البعض جهلاً وتجاهلاً غفلةً وتغافلاً، بهُزال الميزانية، والوقت غير المناسب، والعقبات التنسيقية، وغير ذلك فيكتفون بالنذر القليل والعابر منها في ظل “غيبوبة” فكرية وعلمية وعملية تُعيقهم عن تبيُّن مقومات اللحاق بركب التغيير المعرفي والتطويري المتسارع في عالم اليوم… التغيير والتطوير الذاتي والمؤسسي الذي يسود به النابهون المتيقظون!!!
فالأمر يحتاج إلى العزم والتصميم مع اتخاذ القرارات الشجاعة والمدروسة بعناية من أولي الخبرة والدراية تحسباً لما يمكن أن يفرزه المستقبل من تداعيات ومفاجآت، وذلك لا يتأتى إلا باستشراف المستقبل والاستعداد له بما أوتي أولوا الألباب من مؤهلات ومدخرات ودراسات تفاعلاً منفعلاً.
فالقيادة الرشيدة ثاقبة الرؤية دونما تخبط أو ارتجال والمفترض أن تكون محاطة ببطانة أمينة وواعية ومدركة لبواطن الأمور هي التي تأخد بالبلاد إلى بر الأمان برغم العثرات والهنات التي تعترضها بين الفينة والأخرى.
لقد عاد الطبيب الحاج مهاتير محمد مرة أخرى إلى سدة الحكم بعدما تجاوز التسعين من عمره ليقين الغالبية الغالبة بقدراته المفطورة والمكتسبة والمشهودة على مواصلة النهوض بالبلاد بإمكانات وتفرد الساسة المحنكين الذين فطنوا للمتطلبات والأولويات الأساسية والضرورية بعيداً عن الجمود الآسن والخمول التنظيري الذي يراوح مكانه!!!
وصدق الشاعر إذ يقول:
وما نيلُ المطالب بالتمني
ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا
وما استعصى على قوم منالٌ
إذا الإقدامُ كان لهم رِكابا
*خبير استشاري في الإعلام التطبيقي، والتطوير الذاتي والمؤسسي بخبرات دولية
taheel22@gmail.com