أحمد بن علي الشيزاوي
كوني من مواليد عصر النهضة، الذي كان مبهورا على الدوام بكل ما شهده من مستحدثات التقنية كون البلد في حينه كان يعيش مرحلة مخاض تنموي حافل بسيط وثري في ذات الوقت ، فالقرية التي كنت قد ترعرعت بها لم يكن بها إلا سيارتين من نوع لاندروفر تلك السيارة الانجليزية ذات التاريخ العسكري الحافل أكثر من كونها سيارة استخدامات مدنية
كما ان التلفزيون كان موسما إجتماعيا يحتشد حوله الكبار قبل الصغار في صمت وذهول وهم يتابعون برامجه الرصينة التي كان الإعلام في حينها يسعى بكل ثقه للحفاظ عليها كمبادئ ثابتة لا قيم متغيرة حسب الأزمنة والأحوال. ولما كانت السلطنة تسعى للسباق مع العصر، فقد دشنت تلفزيونها الملون تحت اسم تلفزيون التلفزيون العماني الملون ولكننا لم نكن نعرف ما هو الفرق بين التلفزيون الملون أو العادي فالصورة التي تشوبها خطوط عرضية تنقطع لمرات عدة والتي كان يفسر لنا الكبار في حينها بأنه بسبب -الشريط انقص- أي شريط الذي انقطع !! وكيف!! ولماذا لا يهم!! كنا نردد وراءهم نفس العبارة بل ونسابقهم في فرح الشريط انقص لم تكن تظهر الا بالأبيض والاسود مش رمادي طبعا يعني التلفزيون الذي كنا نملكه قد تنبأ لمقولة الاستاذ نظيم شعراوي القاضي في مسرحية شاهد مشفش حاجة الشهيرة والتي سارت مثلا يإبني حدد يأبيض ياسود ما ينفعش رمادي ،
كذلك التلفون الذي لم نراه في منازلنا قبل عام 1976 كان لماعا أحمر اللون بقرص ذا جرس عالي الرنين، وكان المتحدث به متأثر جدا بما يشاهده في التلفزيون من طرق تحدث الاخوة الصعايدة بالهاتف بمسلسلاتهم القديمة فكان يبدأ الرد بكلمه ألوووووووووه – بلكنه صعيديه – لم أستطع ان افسر السر حولها هل هو لالتقاء الثقافات وتلاقحها عبر مثقف الاجيال ومازج الحضارات التلفاز أو أن الأمر من باب تقمص شخصية المتحضر وأي متحضر .
لم أكن طفلا مشاغبا أو عنيفا أو بليدا إنما كان ذنبي الوحيد في سنوات الدراسة الأولى التي كانت بمدرسة أحمد بن سعيد المسائية – وهنا نتحدث عن الفترة من 1976 الى 1981 – انني كنت كثير النظر من الشباك للخارج ، ونظرا لتصميم المدرسة الذي يتوسطه ساحة العلم التي دائما ما ركضنا بها ولهونا بجذل الصباء وتختزن ذاكرتنا حولها الكثير من لحظات السعادة التي أغبط الاطفال عندما أراهم يحملونها اليوم في نواظرهم غير آبهين بمشكلات العصر ولا كم الفواتير التي يدفعها أحدنا من صحته ووقته ، نعود لتصميم المدرسة الذي كان يسمح لي بالجلوس الى جانب الشباك وأعتقد أن حبي للجلوس بالطائرة اليوم إلى جانب الشباك يعود إلى جذور نفسية تأصلت مع مرحلة الدراسة الابتدائية.
كل جناح من أجنحة المدرسة الكبيرة في قيمتها العتيقة في مبناها البسيطة جدا في أثاثها كان يسمح لي أن اعيش في كل سنه انتقل بها فلم انا من يؤلف سيناريوه واتحمل تكاليف انتاجه واختار شخصياته واتعاقد مع ممثليه ، وأعرضها على شاشة ذهني في فترات الحصص التي كانت تستغرق الفترة من الساعة 12 الى الساعة 4 مساء تقريبا ، أراقب ذلك العامل البسيط جدا وهو يعمل في مشروع اضافه مسجد من المواد غير الثابتة لمبنى المدرسة فأحسده في الناس عايشه حياتها ومبسوطة، ونحن ما بين الحصص والدفاتر السوداء ذات الخط الاحمر اللامع على حرفها واقلام الرصاص الصفراء وتسميع وضرب بالعصاء وشخط من المعلمات ، كنت أرمق ذلك العامل ايضا وهو يرمقني بنظرة لم يسمح لي عمري العقلي حينها بفهمها كنت اشخصها في حينها انه كان يشمت من وضعنا في هذا الصندوق المغلق وتحت سيطرة هذه المعلمة الوافدة من الوزن الثقيل بينما هو يعيش يومه بحريه تامه.
في السنة التي تلتها نقلنا إلى جناح اخر كان يطل على الشارع من جهة الشمال، المنظر اكثر من جميل بل وخصب للسرحان والتوهان ، كان يطل على “الاستيشن” وهو لمن لا يعرفه موقف سيارات الأجرة التي كان اكثرها في حينها من نوعين من السيارات اما سيارات نيسان 120 Y او نيسان 6 سلندر لم تكن تحمل اسم سواء ذلك وكانت تعرف بالسته كون سلندراتها السته تميزها عن غيرها ، طبعا بالنظر الى ملاك السيارات التي تدر عليها دخلا مقارنه بالعامل البسيط انهم ملوك الزمان ومن قدهم فهم فوق الحرية لديهم سيارات لا تقل عن 120Y وفوق ذلك تسمح لهم بالتنقل الى اي مكان وفوق ذلك يستكرودن الناس ويأخذون نقودهم لانهم ركبوا على مقاعد سياراتهم لمسافات بسيطه ، جلسه لعبه الحواليس ودله القهوة ترسم مشهدا مثاليا حريه وسيارات ودخل مالي وفوق ذلك متعه باللعب هذا هو الافتراء بعينه، كان احد سائقي سيارات الاجرة شاب اذكر شكله وحسب ما يخيل لي انه لم يتجاوز 18 سنه في حينها كان هذا الشاب ينظر للفصل الذي كنا فيه في سرحان ، وربما كان يبادلني النظرات ، كانت نظراته بها نوع من الحزن وانا اتسآل في نفسي ولم افهم في حينها لماذا كانت نظرته تلك.
تمضي بنا الأيام ، ويكتب لي المولى أن انجز مراحلي الدراسية واتعين بوظيفه اعتبرها محترمة ، ومن خلال تلك الوظيفة كان لي مدخل لمقابلة الناس وحل مشكلاتهم نحن نتحدث هنا عن عام 1998، ويدخل علي المكتب شخص رسمت عليه الدنيا خطوطها بوضوح ولكن لحظه في هذا الشاب نظره اعرفها واحفظها عن غيب تلك النظرة استعدتها بتقنية الفلاش باك بسرعه البرق ، سبحان الله هل هذا معقول ، انه الشاب الذي كان ينظر لي من موقف سيارات الأجرة احد المفترين الذين ذكرت لكم اوجه افترائهم سابقا ، يحكي لي الرجل عن حاله ويشكي عدم قدرته على اللحاق بقطار التعليم رغم انه درس بنظام الدراسات الحرة الا ان سيارة الاجرة كانت مصدر دخله وكانت تحرمه في كثير من الاحيان من الانتظام ولكنها اصبحت اليوم لا تسعفه اطلاقا ويطلب مني حلا عاجلا من خلال وظيفه او عمل اي عمل المهم يسد بها حاجته وحاجة عياله ، ليصدق من قال بالعلم والمال يبني الناس مجدهم …لم يبن مجد على جهل وإقلال.