بدر بن سالم العبري
بعد ما تحدثت الآية عن الاختيان؛ ينطلق القرآن إلى تصحيح مفهوم عدم إتيان النساء في ليالي رمضان، وكما أسلفتُ في اليوم الماضي يعود إلى أنّ ثقافة الصيام لم تكن جديدة على العرب، فقد كانت موجودة، ومنها بطبيعة الحال الثقافة اليهودية الذين كان لهم انتشار كبير في الجزيرة العربية، بجانب الصابئة وما بقي من تعاليم إبراهيم عليه السلام أو الحنيفية.
والشائع عند المفسرين نتيجة المرويات أنّ رمضان شرع بداية من طلوع الفجر وحتى غروب الشمس، إلا أنّه يستثنى إذا نام فلا يحل له بعد استيقاظه من نومه، ولو استيقظ في منتصف الليل!!
وأتصور أنّ هذه المرويات ليست سليمة، ولأنّ العادة من التشريع في التدرج إن وجد أنّه يبدأ بالأخف حتى يعتاد الناس عليه فالأشد وليس العكس.
وهنا كما أسلفتُ جاء القرآن لتصحيح المفهوم السائد آنذاك في الصيام، فهو له جانبان، تصديقي وتصحيحي (الهيمنة)، فصدّق صيام الناس إلا أنّه قام بتصحيحه بما يتوافق وفطرة الإنسان التي فطر عليها.
وهنا القرآن الكريم يأتي مرة أخرى بالكناية في ألفاظ النكاح، فضرب مثالا تربويا في آيات الصّيام من خلال ثلاثة ألفاظ: الرفث، واللباس، والمباشرة.
وقد تحدثنا بكثرة عن المقاصد التربوية والحضارية من التكنية في الحلقات السالفة فليرجع إليه من شاء، والذي يهمنا هنا معنى المباشرة، فالأصل فيها لغة الملامسة، أي ملامسة جلد بجلد، ومنها يسمى الجلد الخارجي البشرة.
أمّا اصطلاحا فأكثر أهل التفسير هنا بمعنى الجماع، وقيل وهو أضعف بمعنى النكاح، والنكاح يستخدم في القرآن في الأصل بمعنى عقد الزواج، وقيل المراد في قوله تعالى: فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ[1]، المراد به الوطء.
وعلى العموم لا أحفظ منعا لعقد النكاح في نهار رمضان إلا إذا كان المراد به ذات الدخول أو الجماع وهو الأظهر والله أعلم.
وظهر الخلاف في مقدمات المباشرة كالتقبيل والضم، وبعضهم أجاز أكثر من هذا عدا الإنزال، ومذاهب الفقهاء معروفة من الخلاف في هذا، فمنهم نهج منهج التضييق الشديد، وما جاء من روايات كتقبيل النبي عليه الصلاة والسلام لأزواجه في نهار رمضان حملوها على الخصوص للنبي عليه السلام لأنّه أملك لأربه، ومن باب سد الذرائع.
ومنهم من توسع كثيرا حتى فيما عدا التقبيل شريطة عدم الإنزال، ومنهم من رخص في التقبيل إذا أمن وشدد في غيره لورود نص الرواية، ومنهم من توسط بمقدار الاطمئنان بحفظ النفس عن الوقوع في الممنوع.
واستثنى العديد من الفقهاء من كان راجعا من سفر وامرأته طهرت في نهار ذلك اليوم فيجوز المباشرة هنا، ومنهم من شدد، والاستثناء يدخل فيه من أفطر بسبب فدية لأسباب ذكرناها في الحلقات الأولى، فهؤلاء إن ارتفع عنهم ذات الصيام فيرتفع ما يقع عليه الصيام من إمساك عن الطعام والشراب والجماع، ومثل هؤلاء كما أسلفت فيمن يتساوى عندهم الليل والنهار مناصفة في السنة، فيكون النهار ستة أشهر والليل ستة أشهر، وكذلك من يطول عندهم النهار حتى يصعب ويشق صيامه، فلهم الفدية هنا، والله أعلم.
والحاصل فيما أراه ذكرُ الله تعالى للمباشرة ليس المراد به ذات الجماع فقط بل حتى مقدماته، من تقبيل وضم وما شابهه؛ لأنّ هذا يتعارض وهيبة ومكانة الصيام، وما روي من تقبيل النبي لأزواجه في نهار رمضان فلا أتصوره يصح، ولقد عانى هذا الرسول من الرواة الذين جعلوه أداة جنسية كقولهم يدخل يوميا على نسائه في ساعة، وكأنّ الرسول لم تكن حياته إلا المنافسة في الجنس والحياة لأجله، فكل ما روي في ذلك محكوم بكتاب الله تعالى، على أنّ هناك مسائل أخرى تحتاج إلى نظر في هذا كقضية الزوجات التسع، والزواج بعائشة ت 58هـ وهي صغيرة.
وذكر الله تعالى لفظة: الآن، المراد به الإباحة بعد تصورهم المنع وهو الظاهر، أو كان منع في السابق شرعا كما يقوله الرواة والمفسرون.
ويتبع الله تعالى هذا الجزء بقوله تعالى: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، واختلف في المراد من لفظة وابتغوا وفي قراءة واتبعوا، فقيل على الأكثر الولد، وقيل الجماع، وقيل ليلة القدر، وقيل ما أحل الله تعالى لكم.
أما المراد بليلة القدر فلا يتناسب وسياق الحديث، على أنّ ليلة القدر كما يرى الخليل ابن أحمد ت 170هـ مرة ولا تتكرر، وهو الموافق لسياق الآيات، وأشرنا إلى هذا في حلقة: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن.
وأما الولد فكذلك لا يتناسق؛ لأنّ الولد نتيجة المباشرة، والمتعة الجنسية في أصلة شهوة طبيعية في الإنسان، وعليه المراد بالابتغاء ما أحله الله سبحانه وتعالى من التمتع بين الزوجين، ومقدماته، ولهذا قال ما كتب الله لكم أي من الإباحة.
وفي هذه الجزء من الآية تربية حضارية في التوازن، فليست شريعة الله تعالى المراد منها الكبت والمنع، ولكن المراد منها التنظيم، فما منع كان متناسقا وقدرة الإنسان في الاجتناب، ولذلك كان محدودا بقدر معقول، وأعطى بدائل واستثناءات لمن لا يقدر، والناس ينزلونها زمانا ومكانا.
وعليه ليس المراد من التحريم في غير هذا أي من الممنوعات في أيام العام وفي حياة الإنسان؛ ليس المراد به ذات التحريم فقط، وإنما الغاية التنظيم ودفع ما يضر الناس في فكرهم ونفوسهم وأموالهم وأعراضهم، وعلى الأمم تحقيق عنصر التوازن، والبحث عن البدائل، ومعالجة القضايا منطقيا بما يناسب الناس زمانا ومكانا، وهذا ما أراده الله تعالى ليكون دربة حضارية للإنسان في حياته توازنا وبحثا عن البدائل الاجتماعية بما يحقق الاطمئنان المعيشي في حياة الناس ومجتمعاتهم.
[1] البقرة/ 230.