بدر بن سالم العبري
نتناول اليوم الجزء الأخير من الآية 186 من آيات الصيام من سورة البقرة، والتي خاتمة المآلات الثلاثة وهي: التقوى والشكر والرشد، {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}، وقد تحدثنا عن الأولين في أيام مستقلة، ونتحدث اليوم بإذن الله تعالى عن الرشد.
الرشد في اللغة كما في المعجم الوسيط من رَشَدَ الرَّجُلُ أي أَصابَ واِهْتَدَى واِسْتَقامَ، وعَرَفَ طَريقَ الرَّشادِ، ورشِد الشَّخصُ أَمرَه وُفِّق فيه {رَبَّنَا ءَاتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}[1]، والرُّشْد في الفقه بلوغ الصبيّ سِنّ التَّكليف صالحًا في دينه مصلحًا في ماله {فَإِنْ ءَانَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}[2].
مرحلة الرشد هي مرحلة مهمة من مراحل النضج الحضاري في الأمم والمجتمعات البشرية، والأمة الراشدة هي الأمة الناضجة والمتقدمة معرفيا وحضاريا، والله سبحانه وتعالى يريدنا من خلال آيات الصيام أن نصل إلى هذه المرحلة الحضارية الرفيعة.
والقرآن الكريم كما وصفه الله في آيات الصيام بأنّه هدى للناس هو ذاته مصدر الرشد، وهذا ما أخبرت به الجن عندما سمع نفر منهم القرآن الكريم: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا}[3].
وعليه عندما تقترب الأمة من هذا الكتاب هي في الحقيقة تقترب من الرشد والكمال، وعندما تبتعد عنه تبتعد عن ذلك، فالجو الحضاري في الرشد القرآني جو متكامل لا يقتصر عند المادة فحسب، بل يسمو بالروح والأخلاق، ولا يقتصر عند الماضي بل يدعو إلى العقل والتجربة وكشف ما في الكون وتسخيره للإنسان، وحينها يكون التكامل الحضاري.
والأنبياء عليهم الصلاة والسلام مثلوا هذه القيمة الرفيعة في سلوكهم وتعاملهم وفكرهم، والله تعالى أخبر عن نبيه إبراهيم عليه السلام: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}[4].
وأدرك قوم شعيب رشد نبيهم شعيبا عليه الصلاة والسلام: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}[5].
والأنبياء تجسيد لهذا الوعي الحضاري، فهم قدوة وأسوة للناس كافة، {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ}[6].
ومراتب الرشد في القرآن أعلاها الانطلاق من عبودية الذات إلى عبودية رب الذات، ومن الفردية إلى الجماعة، ومن الباطن إلى الآفاق، فتحرر الإنسان من عبودية ذاته وشهواته هذا إلى عبودية الواحد الأحد وهذا أرقى مراتب الرشد، وفي الوقت نفسه لم يجبر أحدا على هذا؛ بل أعطى الجميع مطلق الحرية: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[7].
والرشد في القرآن هو العدالة والحرية والنظام والأخلاق والقيم والمبادئ التي تتشكل بها الأمم والحضارات، وتقوم عليها البلدان والمجتمعات، فهذه ركائز أساسية غيبت لسبب ابتعاد الناس عنها إلى أحاديث الفضائل والماضي وذم الدنيا جملة، فغيبوا المبادئ الأساسية، ووقفوا عند شكليات أثرت على الأمة سلبا، وعليه غاب أفق الرشد عن هذه الأمة في الجملة.
وهذا مؤمن آل فرعون عندما خاطب قومه دعاهم إلى الرشد، وتجسيد هذا في هذه الحياة الدنيا، وأن من الرشد العدل في الآخرة ليجسد في الدنيا أيضا: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}[8].
وسبيل الرشد خلافه سبيل الكبر، فالإيمان والتواضع والعدالة والكفاءة بين الجميع وحسن الخلق رشد وأي رشد، وخلافه كبر وأي كبر، {سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}[9].
عموما الحديث عن الرشد في القرآن يطول ويحتاج إلى حلقات، والمهم هنا أنّ الله سبحانه وتعالى جعل الصيام جوا حضاريا للأمة والفرد ليصل إلى درجة الرشد، من خلال عملية التغيير التي تسعى إليها الأمة في ذاتها ومجتمعها.
والرشد يصل في قوته عندما يقترب المرء من ربه مستجيبا له مؤمنا بصدق وعده ووعيده، هنا يقترب الله برحماته، ويستجيب دعوات عبده، وهذا قمة الرشد الفردي، ليتجسد إلى رشد مجتمعي ترقى به الأمة حضاريا وفكريا.
ونجد هذا الجزء مصدر (بلعل) أي بمعنى لكي، والخطاب يتكرر كذلك بصيغة الجمع من خلال ميم الجمع في لَعَلَّهمْ، وواو الجماعة في يَرْشُدُونَ، ونجد في لعلهم الالتفات إلى الغائب تنبيها لعظمة هذا الأمر، بجانب الإتيان بالفعل المضارع يَرْشُدُونَ، ليكون منهجا حضاريا متواصلا ومستمرا لهذه الأمة، ورمضان مدرسة لذلك، لا ينقطع بعد ذلك.
[1] الكهف/ 10.
[2] النساء/ 6.
[3] الجن/ 1-2.
[4] الأنبياء/ 51.
[5] هود/ 78.
[6] الأنعام/ 90.
[7] البقرة/ 256.
[8] غافر/ 29.
[9] الأعراف/ 146.ِ