بدر بن سالم العبري
يرتبط رمضان بالقرآن، وهو الشهر الوحيد الذي ذكره سبحانه وتعالى مربوطا بالقرآن، وسنجد الحديث عن القرآن في القرآن من حيث النزول يحوي ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أنزل في رمضان في قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[1].
الوجه الثاني: الإنزال في ليلة القدر في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}[2].
الوجه الثالث: الإنزال مفرقا في قوله تعالى: {وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا}[3].
وعليه تظهر الإشكالية هنا، فالوجه الثالث يشير إلى أنّ القرآن نزل من عند الله على مكث، أي على فترات ليكون أسهل في تعليم الناس وتلقيهم له، بينما الوجه الثاني يفيد أنّ القرآن أنزل في ليلة، وهي ذات قدر عظيم لإنزال القرآن فيها، ولكن الله لم يشر إلى أيّ شهر يحوي هذه الليلة، بينما الوجه الأول يشير إلى أنّ القرآن نزل في رمضان، ولكنه هل في جميع الأشهر الرمضانية التي صامها النبي عليه السلام متعلقة بالإنزال بما يناسب العام، أم في شهر بذاته كان الإنزال، وهل في جميع لياليه أم في ليلة محددة.
لذا سنجد الخلاف بين الأولين والآخرين من العلماء في التعامل مع هذه الإشكالية، وليس هنا محل بحثها، ولكن لا بأس أن نعطي القارئ الكريم مجمل بعض الآراء ليدرك كم للعقل والتفكير البشري من أهمية في القرآن؛ لأنه كَوْنٌ متلو بذاته.
ومن أشهر هذه الآراء قول ابن عباس ت 68هـ أنّ القرآن نزل في ليلة القدر إلى السماء الدنيا جملة واحدة، ثم جعل بعد ذلك ينزل نجوما، ثلاث آيات وأربع آيات وخمس آيات، وأقلُّ من ذلك وأكثر، وسنجد هذ التفسير يحتل الصدارة عند الكثير من المفسرين والمتأولين، فهو جمع الأوجه الثلاثة، حيث نزل جملة واحدة في ليلة القدر في رمضان، وبعدها نزل متفرقا، ولكن تبقى إشكاليتان: الإشكالية الأولى أي ليلة هذه التي حضت بنزول القرآن، فالقرآن بدأ نزوله في العهد المكي، أي قبل نزول آيات تأكيد فرضية الصيام، وعليه ليلة القدر كانت سابقة لآيات تأكيد فرضية الصيام، حيث نزلت هذه في المدينة المنورة، وتأريخيا في السنة الثانية من الهجرة، وعليه تكون ليلة القدر واحدة، هي ليلة الإنزال، فمن أين جاء تكرارها حتى اليوم؟!، والإشكالية الثانية أن القرآن حوى علاجا لكثير من المظاهر اللاحقة حتى قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فهل يعني هذا أنّ الآيات سبقت الحدث، وهل كان يعلمها النبي عليه السلام إذا، وعليه ما الفائدة إذا من سبب النزول؟.
وقيل إنّ نزوله جملة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا كان في ليلة القدر من رمضان، إلا أنّ نزوله على محمد صلى الله عليه وسلم كان متفرقا، وهذا القول يحل الإشكالية الثانية المتقدمة نوعا ما إلا أنه يبقي الإشكالية الأولى عالقة أيضا.
وعن ابن جريج ت 150هـ قال: كان ينـزل من القرآن في ليلة القدر كلُّ شيء ينـزل من القرآن في تلك السنة، فنـزل ذلك من السماء السابعة على جبريل في السماء الدنيا، فلا ينـزل جبريلُ من ذلك على محمد إلا ما أمره به ربه، وعليه يكون هذا الرأي أوسع في تعدد ليلة القدر، أي أنّ القرآن كان ينزل مفرقا في أكثر من رمضان بما يوافق تلك السنة، فيكون التفريق هنا في أشهر رمضان ذاته، وعليه يكون هذا الرأي أقرب إلى الربط بين الأوجه الثلاثة، إلا أن إشكالية آلية النزول حسب سبب الحدث وعلم النبي عليه السلام لا زالت واردة.
وهناك رأي آخر وإن كان أقل ذكرا، وهو يميل إلى أن القرآن بدأ نزوله في رمضان، في ليلة مباركة، ذات قدر جليل افتتح فيها نزول القرآن، وبعدها استمر النزول متفرقا حسب الأحوال وتصريف الله سبحانه وتعالى.
وفي نظري أنّ هذا الرأي الأخير أقرب إلى الصواب، ويحل الإشكاليات الواردة حول الآراء الأخرى من عدة أمور نشير إلى أمرين اختصارا:
الأمر الأول: من المشهور تأريخيا أنّ النبي عليه السلام كان يختلي في غار حراء، ويعتكف فيه، حينها كان نزول القرآن، سواء قلنا افتتح بالفاتحة أو اقرأ أو كليهما، فيكون بداية الافتتاح عرسا ملائكيا عظيما، في ليلة أصبحت ذات قدر ومكانة، وهي الليلة المباركة، فيكون هذا الابتداء في شهر رمضان، من هنا ندرك كيف كان النبي يكرر هذه الذكرى والمناسبة باعتكافه السنوي في أواخر أيام رمضان من كلّ شهر.
الأمر الثاني: الفترة الزمنية التي عاشها النبي – صلى الله عليه وسلم – والتي تكمل العقدين من الزمن، كان نزول القرآن فيها في العديد من وجوهه حسب الحدث، بل بعضها ذكرها صراحة كأحداث بدر والأنفال، وأحد والهزيمة فيها، وغيرها، وعليه كان نزول القرآن مفرقا على هذه السنوات، ولا علم للنبي صلى الله عليه وسلم قبلها به، ولا يوجد هنا تناقض، فذكر الإنزال من باب ذكر الافتتاح، وهذا من باب ذكر الخاص المراد به العام، كتسميتهم للفاتحة بأم الكتاب أو الكتاب ذاته، لما تحويه من معالم القرآن وتصوراته الكبرى.
وفي هذا تربية للفرد والأمة فعشرون سنة في حدّ ذاتها كفيلة لتكون تأريخا للإنسان إذا ربط بالهدي القرآني سيحضى بالحكمة والهداية القرآنية، والتي ستعينه في دنياه وأخراه.
لذا كان اعتكاف النبي عليه السلام وملازمته في رمضان وقفة محاسبة وعرض على كتاب الله سبحانه وتعالى، لذا نحن بحاجة أيضا أن نعرض تصوراتنا وسلوكنا الفردية والمجتمعية سنويا في رمضان على كتاب الله سبحانه وتعالى، وأن يكون الخطاب في رمضان قرآنيا بحتا.
ثم إنّ ليلة القدر انحرفت إلى طقس شكلي غامض لا يعرف وقته، والأصل أنها اكتسبت هيبتها لا لذاتها ولكن لكتاب الله تعالى المنزل فيها[4] كما يظهر جليا من سورة القدر، وعليه الأصل الاهتمام والعناية بهذا الكتاب المنزل فيها، وتكون الوقفات السنوية في رمضان في مراجعة هذا الكتاب، وتدبر آياته.
[1] البقرة/ 185.
[2] القدر/ 1.
[3] الإسراء/ 106.
[4] للمزيد ينظر كتابنا: فضائل رمضان رؤية قرآنية، أثناء الحديث عن ليلة القدر. غير مطبوع.