بدر بن سالم العبري
هذا الجزء من آيات الصيام يشكل في جوهره الجو المقاصدي للشريعة الربانية، والتي تجسّد البناء الحضاري على أكمل وجه متناسق مع سنن الاجتماع، وطبيعة الإنسان.
ويتمثل هذا الجزء في مقاصدية التيسير المتلازمة مع فطرة الإنسان، فالله تعالى خلق الإنسان سليما بهيا معافى، وفي أفضل صورة وأحسنها، والذي يجمل هذا قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}[1].
ولقد شاءت الإرادة الإلهية أيضا مع كمال خلق الإنسان إلا أنّه يمر بمراحل ضعف عمرية وجسدية وكونية، أما بالنسبة لمظاهر الضعف العمرية فهو مخلوق بداية طفلا ضعيفا، ويعود كذلك كهلا ضعيفا، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}[2].
وكذلك الحال في الجسد فقد يُخلق وفيه عاهة جسدية، أو معوقا كليا أو جزئيا، ويتقلب مرارا من صحة إلى مرض، وهذه كلها دالة على الواحد الأحد المنزه عن الأفول والأعراض سبحانه وتعالى.
وهكذا الحال بالنسبة للجانب التكويني فهو أمام مخلوقات أضعف منه قوة، ومخلوقات أشدّ منه قوة، فهو أقوى من الذبابة، ولكنه أضعف من الحجر والجبال، ولولا أنّ الله شرّفه بنعمة العقل، وسخّر له ما في الكون لصار حاله يرثى لها.
وعلى هذا كانت الشريعة الغراء مراعية لهذه الجوانب البشرية، لأنّها مستمدة من الله تعالى في مجملاتها، وخبيرة بفطرة الإنسان، فهو خالقها وموجدها، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}[3].
ومع الأمر الإلهي باتباع الشريعة وعدم اتباع الهوى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[4]، ومع هذا كانت هذه الشريعة وفق الفطرة البشرية فكانت بعض القواعد الربانية ومنها:
- {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}[5].
- {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ}[6].
- {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ}[7].
- {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[8].
وعليه كان التطبيق العملي في الصيام ذاته، والأصل كما رأينا في الأيام الماضية أنّ الصيام مفروض من الله تعالى على الجميع، ولكن هذه الفرضية تدور وفق سنة خلق الإنسان وقدرته، فهناك الصغير غير المكلف بالصيام، كما أنّ هناك الكبير العاجز عن الصيام، وبين هذين المريض الذي لا يستطيع الصيام كليا أو جزئيا، والمسافر الذي يرهقه الصيام، ولهذا قال تعالى مبينا مقصد التيسير: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[9].
وعند التأمل في الآية يظهر بوضوح أنّها في موضع الاستثناء من القاعدة، ومع الخطاب الجمعي في كلمة مِنْكُمْ من خلال الضمير المتصل (الكاف) مع ميم الجمع، حيث سُبِقَت بحرف الجر (مِنْ)، وهنا من تفيد التبعيض، أي بعض المجموع؛ لأنّ الأصل القدرة، والاستثناء شيء طارئ في بعض الجوانب الطارئة، وهنا أشارت الآية إلى جانبين كنموذج وهما المرض والسفر.
والمرض لم تحدده الآية، ولم تشر إلى طبيعته ومدّته، وهل هو ملازم غالبا، أم علة طارئة وتزول، كل هذه الإشكاليات تركت للتطبيق البشري المراعي لطبيعة الإنسان، فبعض الأمراض ذاتها يستطيع بها أشخاص الصيام، وبعضهم لا يستطيعون بها الصيام في ذات المرض وقوته، فمثلا ألم الأسنان بعض الناس يصبرون عليه، وآخرون لا يستطيعون عليه صبرا، فيلجئون إلى قلعه أو تناول المسكنات.
وكذا الحال بالنسبة للسفر فبعضهم يصبر على الصيام في سفره وبعضهم لا يستطيع عليه صبرا، فالرخصة هنا فردية ذاتية، والصيام فرضية جماعية، وهذا فيه تقوية العلاقة مع الله، والنظر إلى الله تعالى وحده، فربط الله الاستثناء بذات الفرد، فهو بذاته يقدّر ذلك على نفسه، والله خبير بما تخفيه الصدور، وتكنّه النفوس، وهو بعباده عليم.
وعليه يظهر لنا أنّ الاستثناء اختياري لا إلزامي، وهو مربوط بإرادة الإنسان ذاته، من هنا نرى قول بعض الفقهاء مثلا بوجوب الإفطار بسب أي مرض ولو كان صغيرا، أو وجوب الإفطار ولو نوى السفر، فهذا يخالف مقصد التيسير؛ لأنّ هذا إلزام بذاته، والإلزام لا بدّ له من دليل قوي آخر، والأصل هنا الإلزام بالصيام، والاستثناء تبعيض للقاعدة، لمن أراد ذلك بحيث يؤثر على صيامه ويجهده.
نعم يخرج من هذا إذا تحقق طبيا أنّ الصيام مع وجود المرض يسبب هلاكا للصائم ولو بعد حين، هنا يجب الإفطار، ويمتنع الصيام وجوبا، وهذا يدخل في عموم قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}[10]، ومحكوم بالقاعدة القرآنية: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}[11].
كذلك يتبين لنا خطأ من قال إنّ المرض ولو كان بسيطا يُرخص فيه بالإفطار؛ لأنّ الأصل الصيام، والمرض عارض، ولا يفتح الباب للعارض إلا إذا كان مؤثرا على الأصل.
والصيام في السفر من حيث أدبياته الروائية هو أيضا بحاجة إلى مراجعة قرآنية، فالسفر أولا لم يأتِ في القرآن تحديد مسافته ولا مدته، ولا بيان علته، فهو عائد إلى العرف حسب الزمان والمكان، فما يسمى في هذا البلد سفرا قد لا يسمى في بلد آخر سفرا، كما أنّ الزمن ووسائل النقل تؤثر على ذلك، فما تقطعه البغال في فرسخين، غير ما تقطعه السيارة في المسافة نفسها.
وعليه السفر في نظري مُحددٌ بالنية وقصد السفر لمكان يطلق عليه عرفا أنه سفر، أما مجرد الذهاب إلى مكان قريب ولو جاوز الفرسخين لا لقصد السفر وإنما ذهاب وإياب سريع، هذا لا يسمى سفرا ولا يأخذ حكم السفر في الصيام.
والإشكالية في السفر أنّ مجرد المكوث في مكان يبيح الفطر طال أم قصر هذا بحاجة إلى مراجعة، وقراءة النصوص الروائية قراءة قرآنية؛ لأنّ الأصل الصيام في الوطن أو السفر، صحيحا كان أم مريضا، وبما أنّه ليس كلّ مرض يُبيح الفطر؛ فكذلك ليس كلّ سفر يُبيح الفطر، فهذا عائد إلى تقدير الفرد، وإذا قلنا ليست العبرة من الإفطار المشقة، لزم هذا الكلام أيضا في السفر، وعليه المرض الشاق هو المبيح للفطر، وكذلك السفر الشاق هو المبيح أيضا، لذا كان البيان بعد هذا بقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كما سيأتي بيانه في اليوم القادم بإذن الله تعالى.
ويبين الله تعالى في نهاية الجزء من آية الصيام: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، والعدّة أي عدد من أيام أُخَر بقدر التي أفطر فيها، والله تعالى ذكر العدّة ولكن لم يشر أيضا هل يجب أن يصومها مجتمعة أم متفرقة، وهل لا بد من صيامها قبل رمضان التالي؟!
وعموما مجيء حرف الجر مِنْ قبل كلمة أَيَّامٍ أُخَرَ مفيد أنّ القضاء لا يتعين إلا بمقدار ما أفطر، كان متتاليا أو متفرقا، ولزم صيام رمضان متتابعا لأنه فرض كشهر تام بهلاليه كما سيأتي، وهذا خلاف القضاء، كما أنّ القضاء مرتبط بعمر الإنسان، وعليه لا يتحدد برمضان التالي، لأنّه لا دليل عليه أيضا، فضلا أن يُطالب بدفع فدية مع القضاء إن تجاوز رمضان التالي ولم يقضِ، والصحيح – في نظري – خلافه، وعليه نخلص بسعة وقت القضاء زمنا وتفريقا.
[1] التين/ 4.
[2] الروم/ 54.
[3] الروم/ 30.
[4] الجاثية/ 18.
[5] آل عمران/ 286.
[6] الحج/ 78.
[7] التغابن/ 16.
[8] البقرة/ 185. وسيأتي بيانها بصورة أكبر بإذن الله تعالى في يوم خاص به.
[9] البقرة/ 184.
[10] البقرة/ 184، وسيأتي بيانه في الحلقة القادمة – بإذن الله تعالى -.
[11] النساء/ 29.