الكاتب: خالد محمد عبده*
سُئلت أنّا ماري شيمل لماذا لا تترجمين المثنوي وأنت قد عشتِ مع مولانا جلال الدّين الرومي عمرًا؟ فأجابت لا أستطيع!
كانت شيمل تعرف من اللغات ما لا يعرفه غيرها من دارسي الإسلاميات وكانت سببًا في تعريف الشرق والغرب بشخصيات صوفية من الهند والباكستان والسند وتركيا لم يُسمع عنها من غيرها .. كانت تستطيع أن تترجم أعمال الرومي كما فعل نيكلسون لكنها لم تفعل .. كانت ترى أن نقل روحانيات الرومي إلى أي لغة، مهما كانت أمر صعب.. فكلّ اللغات تعجز عن نقل عوالم مولانا الرومي بشكل يكافئ عمله .. ورغم ذلك رأت شيمل أن رسالة الإسلام أوسع من أن تستقل بها منطقة أو يحدّها زمان، فتجاوزت الأزمان وخرقت حدودًا وسياجًا صنعها (أهل الإسلام) من أجل (خدمة الإسلام).
عاصرت أنّا ماري شيمل المستشرق الكبير ماسنيون، وفي سيرة حياتها ذكرته أكثر من مرّة مشيدة به، وبالطبع كان عمله الأبرز عن (آلام الحلاّج) محلَّ إعجاب وتقديرٍ منها، وقد أهدته فيما بعد نصوصًا حول حياة الحلاّج المستمرة في أشعار الشعوب الإسلامية المختلفة، وبخاصة في شبه القارة الهندية، محل اهتمامها ودراساتها، وكذلك تناولت في أعمالها روزبهان البقلي الذي يعد من أهمّ شراح للحلّاج وصاحب نظرية في العشق الإلهي جعلت الدّارسين فيما بعد يولونه عناية كبيرة.
تعتبر شيمل من أهم المستشرقين في عصرنا الحالي، وهي محل ثقة وإجماع في الشرق والغرب، طُلب منها أن تدرّس في أمريكا وتركيا فأجابت، وكوّنت جيلاً وأطّرت الكثير من الباحثين، الذين طوّروا درسها، وجابت بلاد الإسلام والتقت بالساسة والزعماء وكُرّمت هنا وهناك، وكان التكريم الشعبي لها أهم وأنفع، فهي لم تكن تكتب لنخبة قليلة فحسب، بل كانت تكتب ليقرأها الكلّ دون تمييز، فالنجّار التركي أو الطبّاخ في المطعم حينما يثني على ما تقدّمه تَعدُّ ذلك أفضل تكريمٍ حدث لها، ولعل سهولة أسلوبها دون خلل في التعمق في درس المادة أو الموضوع هو ما جعلها معروفة بشكل كبير عند جمهور البسطاء في باكستان وتركيا والهند.
توزّع اهتمام شيمل على كافة فروع الإسلاميات فما اقتصر نشاطُها البحثي على التصوف فحسب، ففي الخط والرسم والفنون كان لها إسهاماتها، وفي الأدب العربي كذلك، وفي الحوار الإسلامي المسيحي، وفي التاريخ، وكذلك في تحقيق النصوص، وما إن نقف على عتبات نصوصها تقابلنا أزهار المتصوفين.
منذ وقت مبكّر في حياتها –كما تخبرنا شيمل في سيرتها الثرية- كان الورعُ الصوفي يبهرها، خاصة في ترجمات الألمان لروائع الشعر العربي والفارسي، وقد فتنتها بشكل خاص في هذه الفترة ترجمة فردريش رويكرت Ruckert لأشعار جلال الدّين الرّومي التي نُشرت عام 1820، وببساطة المحبّ تروي في سيرتها أنها ابتاعت من أول مرتب حصلت عليه كتاب المثنوي المعنوي للرومي، الذي سيصبح خير صديق لها في أسفارها.
الشخصية الأبرز في التصوف الفارسي منذ وقته وحتى اليوم هو مولانا جلال الدين الرومي، فإن كان قد سُبق بسنائي صاحب حديقة الحقيقة والعطّار صاحب منطق الطير وعاصر ابن عربي وتلميذه القونوي، إلا أنه استطاع بلغته المبسطة التي تحوي من التمثيل والحكاية على مساعدة الإنسان العادي في استكناه الدرس والمعنى، وقرّب التصوف إلى أذهان الكثيرين، وصار فيما بعد سماءً يستظل بها المسلم والمسيحي وغير ذلك من أتباع الديانات.
تعلّمتْ شيملُ الكثيرَ من دروس مولانا جلال الدين، واستحضرته في لقاءاتها العلمية ومحاضرتها، وكانت تحفظ الكثير من حكايات المثنوي، وحِكم الرومي الغزيرة المعنى، وحاضرت عن الرومي في إيران وطشقند وبخارى وباكستان وأفغانستان وأمريكا وتركيا وغيرها من البلدان، أينما ذهبت كان الرومي مرشدها وموضوعها الأبرز.
وإن كانت قد تخصصت في (الثقافة الهندو إسلامية) إلاّ إن ذلك دعّم دراساتها في التصوف، ومن الرومي انتقل اهتمامها إلى (المرأة في التصوف)، فـروحي أنثى كتابها عن الأنوثة في الإسلام دليل على سعة الاطلاع واتساع التجربة وثرائها، عرّفتنا من خلاله بنساء غير معروفة في الدرس العربي حتى اليوم، فلم يقتصر اهتمامها بالنسوة المتعبدات المشاهير كما فعلت مارجريت سميث، بل من متون كتب التاريخ والحديث والتفسير والفقيه استخرجت حكايات النساء، معتمدة في ذلك مدونة مصدرية واسعة بلغات تربو على العشرة: العربية والفارسية والتركية والبشتويّة والأوردية والسندية والبنجابية والسواحلية، مضيفة إلى ذلك اطلاعًا على بحوث وكتب حول هذه الثقافة بالألمانية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية وغيرها.
وقد فُتنت بِـ(صورة المسيح ومريم في التصوف الإسلامي)، فساعدها اطلاعها على ما ورد في كتب الحديث وروائع الأدب الفارسي وما طالعته من ثقافة الهند أن تؤلف كتابًا تبرز فيه ملامح هذه الصورة، مظهرة ما خفي عن كثيرين، ولا تفتأ تذكر اندهاشها بهذه الصورة في محاضراتها، ومناقشاتها مع الآباء والقساوسة كما نلاحظ ذلك في كتاب (الإسلام يسائل المسيحية في شؤون اللاهوت والفلسفة) المنشور في سلسلة (المسيحية والإسلام في الحوار والتعاون) والتي كانت شيمل المرجع فيه لكافة ما يتعلق بالإسلام. ومن المسيح إلى النبي محمد الذي انتقل شوق المسلمين إلى زيارة مدينته إليها، فكتبت عن تبجيل النبي كتابًا اتخذت من كلمة التوحيد الشهادة عنوانا له: (وأنّ محمدًا رسول الله) كان الكتاب ثمرة اهتمامها بشخصية النبي الذي تطوّر على امتداد عقود أربعة.
وكان صاحب تجديد التفكير الديني في الإسلام بابًا من أبواب معرفة شيمل، فكما فَتَنَ محمد إقبال بروائعه الشعرية المستشرق الإنجليزي نيكلسون مما جعله يترجم ديوانًا من دواوينه ويقدّمه للجمهور الغربي، وكما كان إقبال بابًا من أبواب المعرفة انفتحت بسببه عوالم الرومي للمستشرقة الفرنسية إيفا ميروفيتش، كذلك كان إقبال لشيمل فتنة لا تنتهي جعلها تقدّم للجمهور الغربي الشاعر النبويّ والفيلسوف، وتترجم جزءًا من إنتاجه الشعري إلى الألمانية والتركية أيضًا.
كان إنتاج شيمل المعرفي ثريًا للغاية، فقد ألفت ما يربو على المئة كتاب وبحث، احتل التصوف فيه النصيب الأكبر، ونظرًا لأن هذه الشخصية لم تنل حقّها في الدرس العربي ولم تقدّم جهودها في درس الفلسفة الإسلامية والتصوف حتى اليوم نحتفي بإحدى المواد التي كتبتها شيمل عن مولانا جلال الدين.
مجملُ أعمال شيمل عن مولانا جلال الدّين الرومي وما تُرجم إلى العربية:
ذكرنا آنفًا أن الرومي كان موضوعًا لبحث مستمرّ عند شيمل، ومن يلقي نظرة على مُجمل أعمالها وموقع الرومي في مشروعها العلمي سيدرك ذلك جيّدًا، وفيما يلي نذكر مسرد بعناوين بحوث شيمل عن مولانا:
- ترنيمة النّاي (غزليات). 1948.
- اللغة التصويرية عند الرّومي. 1951.
- من ديوان مولانا جلال الدّين الرومي .1964.
- مولانا جلال الدّين الرومي (فصلٌ منشور في كتابها أبعاد صوفية في الإسلام) كتبته عام 1975.
- الرومي (أنا ريحٌ وأنت نارٌ) حياة ومؤلفات الصوفي الكبير. 1978.
- الشمسُ المنتصرة (دراسة في أعمال جلال الدين الرومي) 1978.
- مولانا جلال الدين الرومي (من الكلِّ إلى الواحد) 1988.
- الرومي (انظر هذا هو الحبُّ- شعر الرومي) 1991.
- الرومي مرشد الرّوحية 2001.
- يا حضرت مولانا (جلال الدين الرومي)، وهي المادة التي قمت بخدمتها ونشرها في كتاب مستقل باعتبارها من التعريفات المفيدة للقارئ العام عن الرومي.
كانت قد نشرت شيمل هذه المادة في مجلة فكر وفن، العدد رقم 21 ، في 1 يناير 1973، مترجمة عن الأصل الألماني، وقد ضمنتها شيمل فيما بعد كتابها (الشمس المنتصرة)، الذي عُرّب فيما بعد عن النسخة الإنكليزية بقلم الأستاذ عيسى علي العاكوب، ولأننا نحتفي بالحضور العربي لمولانا جلال الدين منذ فترة كان من ثمارها أن أصدرنا كتاب (الرومي بين الشرق والغرب) عرضنا فيه لكيفية تلّقي الرومي والمولوية في المحيط العربي، بداية من طبع المثنوي وشرحه العربي في مطبعة بولاق، واهتمام الجامعة المصرية والدوريات العلمية الرائدة بالتعريف به على يد الأستاذ عبد الوهاب عزّام وجيل من التلاميذ المخلصين، كان من ثماره أن نُقل المثنوي بتمامه إلى العربية في ترجمات ومختارات عدّة، ففي مصر تُرجمت مختارات منه نظمًا ونثرًا على يد عبد الوهاب عزّام والشيخ الصاوي شعلان، وفي سوريا قديمًا قدّم الفراتي مختارات منه مع روائع من أدب التصوف الفارسي، وحديثًا قدّم جملة من مختارات المثنوي وقصصه مراد مولوي، وكذلك فعل عيسى علي العاكوب، هذا وقد عمل الشاعر الجواهري العراقي على خدمة المثنوي في إيران، فنقله إلى العربية نظمًا في صورته التامة مصحوبًا بالنص الفارسي، وكذلك الأمر في لبنان، فكما كانت الجامعة اللبنانية محتضنة لطبع محاضرات وكتابات محمد عبد السلام كفافي، أشرف فيكتور الكِكّ على طبع مختارات مترجمة إلى العربية من تراث مولانا طُبعت فيما بعد في الكويت.
ونظرًا لانتشار الاهتمام بالرومي في العصر الحالي بشكل لافت للنظر، سواء في مجال البحث والكتابات أو الصحف والمجلات، أو الفنون المسموعة والمرئية، يستوي في ذلك الشرق والغرب، وإن كانت ثمة فوارق بين الاهتمام هنا وهناك. بعض هذا الاهتمام مؤسس على معرفة وممارسة، أو تعرّف واقتراب من الواقع ومدارسة لما كُتب عن التصوف المولوي في المصنفات القديمة والحديثة، وجزء من الاهتمام منبعث من أزمة عاناها البعض مما يُقال عن الإسلام، أو مما يظهر من ألوان التدين المعاصرة التي لا تظهر الإسلام في ثوب جمالي، ولا تبين عن الروحانية الكامنة فيه. نظرًا لهذا وغيره أردنا أن نقدّم مادة علمية عنه كُتبت بلغة مبسطة تشبّعت بدروس حضرة مولانا جلال الدين، وأتقنت درسه الأول (تكلّم من قلبك)، ونثرت جزء من ثمار حديقته بعد مكابدة وكدح، لا عبر نقر وقصّ كما يفعل البعض اليوم، حينما يتصفّح القارئ العربي هذه المادة سيعرف الفارق حتمًا بين ما يُنشر اليوم ويُذاع منسوبًا إلى الرومي، وبين ما هو حقّ ووطيد الصلة به وبكلامه.
ولأن المادة المكتوبة كانت في صورة الفواتح أرادت أن ترسم شيمل من خلالها صورة عن قرب للرومي، فجاءت مادتها خالية من المراجع والتوثيق، فرأيت إتمامًا للفائدة أن أعلّق على ما يستدعي التعليق لنفتح الباب بشكل أوسع على جملة من المعارف والكتابات عن الرومي المولوية، متى ما أراد القارئ أن يستزيد منها فعليه العودة إليها، وأحسب أن المحبّ لهذا اللون من الفكر الصوفي سيجني الكثير من الثمار.
* كاتب متخصص في التصوف الإسلامي