منى بنت سالم المعولية
إديث بياف أوهمتني أن الحياة بلون الزهر!
إديث بياف القائلة في حلمها الوردي ” أعطني قلبك و روحك لتظل الحياة وردية” في الواقع أن عمى الطفولة الذي هاجم قرصعينيها المظللتان بأقواس حاجبيها الرفيعين، أزال منطق الألوان عن حقيقتها، فبقت بياف تنظر إلى الحياة بلون قلبها فقط، مع أنها كانت تعشق العتمة والأسود حتى بعد عودة بصرها لها، لكن بصيرتها ظلت حاضرة ، رغم كل المآسي وقسوة الحياة. صوت الأسطورة المنطلق من رصيف الشارع يصدح كانساً معه الأسى، محملا برياح الصبر والحب والإرادة والبقاء، من طفلة نزفها رحم أمها في شوارع فرنسا وبقت في بيت جدتها لأمها ذات الأصول العربية ، في حين أن أمها كانت تجوب الشوارع باحثة عن الغناء والشهرة والبغاء تاركة العصفورة تعاني البؤس و التشرد و المرض ، حتى عادت يد الجندي الوالد العائد من أتون الحرب ليزج بها مرة أخرى إلى حضن والدته المالكة لماخور والذي كان سبباً في الكثير مما ترسخ في عقلية الطفلة بياف ، و أن تنشأ في جو مزكوم بالعهر وتتقاذفها يد حنان العاهرات حتى توهمت وترسخ في مخيلتها أن كل ما يحدث هو جزء من الطبيعة وأن ذلك هو حق الرجال على النساء!
تعود يد والدها لتأخذها مجددا بعد إنتهاء الحرب، لينضم إلى السيرك كبهلواني ثمل فاشل مما أدى برئيس فرقة السيرك إلى طرده، ليجوب الشوارع عاملاً بمفرده، بطرق عقيمة لم يكن فيها ذاك البهلواني الذي يستقطب المارة و يلفت انتباهمم اليه. لكن الحظ ساعده أن تكون العصفورة الصغيرة – اديث بياف بصحبته لتمتد اليه يد الإعجاب، بعدما احس في لحظة ما أن المارة لم يستسيغوا حركاته البهلوانية البائسة، ليقذف بابنته الصغيرة بعدما طالبه الحضور بذلك. لكن إديث لم تكن تملك شيئا من المهارات مما أغضب والدها الذي اجبرها على إنقاذ الموقف وتقديم أي عرض، حينها تقدمت الفتاة بكل براءة مستعينة بذاكرتها و هو ما تعلمته من أمها في شوارع الغناء، فأطلقت ترنيمتها الأولى، منشدةً بحب وقلق وإبداع، مما لفت الحضور وأذهل والدها الذي ظل بعد ذلك يستغل موهبتها لجني المال.
مطلقة قبعتها للريح جابت العصفورة الصغيرة الشوارع لترفرف بصوتها الساحر مع رفيقة دربها وأيامها مومون – وذلك بعد أن استقلت عن والدها – التسكع للغناء في الأزقة ولفتت نظر المارّة حتى كان يوم تسرب صوتها إلى أذن لويس ليبليه صاحب أحد الملاهي الليلية والذي دعاها لزيارته وقدمها لزبائنه وتبنى تلك الموهبة المسكوبة على رصيف الطرقات والفقر والشحاذة لتنتصب بقامتها القصيرة مطلقة عنان صوتها لرياح التغيير والشموخ أمام جمهور حقيقي يستمع إليها بإمعان ويدرك ضخامة خامتها الصوتية العريقة.
بياف عاشقة متجددة أحبت العديد من الرجال ولكنها أخلصت العشق لرجل واحد وهو الملاكم الفرنسي مارسيل مادرين والذي قضى نحبه في حادث تحطم طائرة تقله إلى نيويورك لمقابلتها ، وتحطمت بعده حياة إديث بياف التي ماتت من تلك الفاجعة في داخلها لمرات عدة حتى أدمنت المخدرات والكحول وغدت تهلوس باسم مارسيل وتصرخ إلى أن هاجمها المرض وتشمعت كبدها وشاخ جسدها الفتي، مع إنها حين فارقت الحياة لم تتجاوز عمر السابعة والأربعون إلا إنها غدت كعجوز شمطاء تجر ذيل الموت في غفلة أو لحظة
ماتت العصفورة الصغيرة أو إديث بياف التي خلدت هذا الإسم والتصق فيها بعد أن أطلقه عليها عرابها لويس ليبليه وحلقت روحها تاركة خلفها جيش من المحبين والعشاق( لأسطورتها)
في حزن رهيب وبرغم أن الكنيسة والقداس قد رفضتا تأبينها والصلاة على روحها لما التصق اسمها في ذهن رجال الدين من فسق وبغاء وهوى إلا أن قلوب العشاق ودموعهم كانت الصلاة التي رافقت جسد بياف.
ذاك الجسد الذي إكتسى الملابس السوداء في حياته مضيئاً بحبه وصوته وإرادته ( الرداء الأسود) …
رحلت وهي غير نادمة على شئ، مؤمنة بأغنيتها التي تحمل هذا العنوان مؤمنة ان لا شئ يستحق الندم، فمسارات البشر ليست متشابهة و لا نعلم كم يمتد بنا الطريق….كانت تمتلك جناحاً واحداً،صوتها الذي حلق بها إلى أراضٍ و سماوات بعيدة.
إديث ….. يا عصفورتي الصغيرة هل أنتِ نادمة يا فتاة؟
” لا أندم على شيء”
“لا أندم على شيء”
أبدااااااا
لا .. لا شيءَ قَطُّ !****
لا .. لستُ نادمةً على شيء!
لا الخيرُ الذي قدموه لي
ولا الإساءات ..
فكلها .. صارت لديَّ سواء !
لا .. لا شيءَ قَطّ
لا .. لست آسفة على شيء
قد دُفِعَ الثمن ، ومضى، وصار طيَّ النسيان
وأنا .. سعيدةٌ بماضيَّ..
إقتباس من أغنية لا أندم على شيء لإديث بياف