كرينا بير *
ترجمة: فيصل الحضرمي
تمشي وتمشي وتنسى: هذا ما تقوله دائماً. حسناً، ليس بهذه الكلمات بالضبط. هي في العادة شكاوى محددة بشكل أدق: لم تتصل بباتشيكو، لم تلق نظرة على اشتراك التلفزيون، لم تأخذ السيارة إلى الورشة، تأخرت على وجبة العشاء، نسيت ذكرى زواجنا، نسيت شراء الشامبو الذي طلبته منك. هي لا تنتظر منه أن يجيبها، وبنجامين يعرف أن رده سيكون بلا طائل. ويعرف أيضاً أن وراء أفشين الشكاوى الصغيرة ذاك* يرتفع المأخذ الحقيقي مثل هضبة مجوّاة؛ فادحاً، غير قابل للغفران: أنه لا يتذكر. وثمة فرق هائل بين النسيان وعدم التذكر.
مأخذ لم يسبق أن عُبر عنه بصراحة بالطبع. الثقل الكارثي لكل ما لا يتذكره بنجامين -أو ما يدعي أنه لا يتذكره- قد يتسبب بهزة أرضية في جميع الطبقات الجيولوجية التي تكونت بأناة عبر السنين لتشكل أساساً راسخاً. بنجامين لا يتذكر المستقبل الذي تُرك وراء الماضي؛ المستقبل المجيد، المتوهج كالشمس، والذي تضمحل معالمه بشكل غامض كلما اقترب منه، وقد برهنت على ذلك سنوات زواجهما الخمس والثلاثون.
الأسوء في الموضوع أنك لا تتذكر -تقول دون أن تقولها- وهي تتحدث عن الميكانيكي والشامبو. أنت تنسى كل شيء -تقول. الحياة التي وعدتني بها -لا تقول ذلك. أنت تمشي وحسب، والمشي لا يحل أي شيء –تقول- ومؤخراً هذا كل ما تقوم به.
وكأنها لم تكن تعرف أن بنجامين يمشي امتثالاً لأوامر الطبيب. المشي هو العلاج لكل شيء في سنه: ارتفاع الكولسترول، تدهن الكبد، انسداد الشرايين، وقلب بطيء كصاحب تلك الأعضاء البالية. هكذا صار معتاداً على المشي. الآن تشتبه زوجته في أنه يحب فعل ذلك، وهو أمر لا يمكن أن تسمح به؛ ليس عدلاً، بينما تعيش هي تحت وطأة الالتزام بتذكر مستقبلهما الباهر ذاك، والذي تلاشى في الحاضر بكل بساطة.
“يكفي مشياً بنجامين. افتح الباب من فضلك! سيأتي موريسيو للعشاء الليلة رفقة أحفادك. لا يعرف أبداً كيف يتصرف معهم حين يأتي دوره للاعتناء بهم. أصبحوا لا يطاقون منذ طلق زوجته. واضح أن الأمر من تدبير أمهم (لا تجعلني أبدأ). وساندريتا نائمة، لذا سيتوجب عليك الذهاب إلى المخبز. ويمكنك أيضاً أن تجهز الطاولة، ألا تظن ذلك؟ يجب أن افعل كل شيء بنفسي. وأنت، تمشي، وتمشي!”
يخشخش الحصى تحت قدميه، ويندفق هواء الربيع مع تغريد طيورٍ لا تُرى. يرفع بنجامين مستوى الصوت؛ من بعيد يأتي صهيل حصان. صوت شجي.
إنه محاط بعالم النباتات الأخضر، تماماً كما في البداية، عندما كان يذهب إلى الأماكن التي بها مسالك عامة للمشي : لاآوتوبيستا، لوس كاوبوس، أيل باركيه ديل أيسته. ابتاع لنفسه جهاز ووكمان، ولبرهة من الوقت سحب بطنه إلى الداخل ورفع رأسه، كما ينبغي لعضو في جماعة الرياضيين الأصحاء حيث يرتدي رجال الأعمال الناجحون، بكل ديمقراطية، نفس السراويل القصيرة التي يرتديها الفاشلون. مملكة السيقان المفتولة العضلات التي تتمرن لأجل الماراثونات، الطماقات الضيقة، الأرداف المثالية ، الأجساد الملتمعة بواقي الشمس والعرق. إلى أن أتى اليوم المحتوم الذي أدرك فيه أن الآخرين كانوا يركضون أو يهرولون. وحتى أولئك الذين كانوا يمشون مثله كانوا يجتازونه بسهولة المرة تلو الأخرى. بدوا وهم يخبطون على إسمنت المسالك الظليلة كما لو كانوا يهرعون إلى وجهة مهمة لا يعرفها. أما هو، في المقابل، فقد كان يتمشى. كانوا قد خلفوه وراءهم كما هو الحال دائماً. وهذا ذكره، بطريقة من الطرق، بعتاب زوجته الصامت، غير القابل للتجاهل كسلسلة جبلية. لذا وضع ووكمانه في الدرج (دائماً تشتري الأشياء ولا تستخدمها) واختار أن يترك السيارة ويذهب إلى عمله ماشياً، ذهاباً وعودة.
“هل سمعتني يا بنجامين، يكفي الآن!” تقول. “افتح الباب، سيغلق المخبز!”
يسرع بنجامين الخطى فما زال الطريق طويلاً أمامه.
يقع مكتبه في نفس البناية القديمة التي كانت ما تزال جديدة عندما افتتحه فيها قبل مدة طويلة من تجاوز المدينة لها تاركة إياها منسية في نهاية شارع مخصص للمشاة وحدهم يعج الآن بالباعة المتجولين. المشي هناك كان يعني الضياع وسط الأكشاك والطاولات؛ وسط فوضى الحلي الاصطناعية، والعطور التايوانية، وسراويل الجينز المقلدة، وسراويل السباندكس الداخلية المطعمة بالدانتيل. كان بنجامين يتجول في المكان مقلباً صفحات الكتب المستعملة والمجلات الإباحية المهترئة المعروضة على الأرصفة. وأحياناً كان يشتري حلوى دوولسه دي ليتشه أو كيلوغراماً من اليوسفي، موزوناً بطريقة سيئة، من مستيسا* شابة كان طفلها ذو لون الشوكولاتة الخالصة ينام محاطاً ببضاعتها. كانت تحادثه بود بالغ، قائلة أن اليوسفي حلو المذاق، منادية إياه “يا حبي”، أما بائع المجلات، وهو ألماني بشعر أبيض ولكنة كولومبية، فكان يشاطره بعض التفكرات العميقة حول الوضع الراهن للبلد، والتي لم يكن بنجامين ليختلف معه فيها.
هنا لا وجود للماضي أو المستقبل على الإطلاق، فضلاً عن وجود المستقبل الماضي. كان من السهل التجول دون وجهة محددة ولا أمتعة، عبر ذلك الحاضر المباشر، العابر والأبدي في نفس الوقت، والذي كانت تبدده الصرخات وطي البطانيات حالما يبرز الموظفون بأزيائهم الرسمية من وراء الزاوية تاركين الشارع خاوياً فجأة، بواجهات بناياته المتقشرة، وحاويات القمامة الطافحة، ولطخات الأسفلت على الشارع المرقع. لكن أياً من ذلك لم يكن تراجيدياً أو دائماً: ما هي إلا بضعة دقائق ويعود الهرج والمرج من جديد.
سرعان ما أصبح المشي إلى ومن العمل الجزء الأكثر إمتاعاً في اليوم. أبقى بنجامين الأمر سراً بالطبع. كان يدرك جيداً أنه لا يملك الحق، بينما كان يتم تفليس موريسيو من قبل مطلقته النصابة، وبينما كانت ساندريتا تضع في أنفها تلك البودرة التي تجعلها مشوشة وهائجة، وهي، المسكينة، في البيت، وحيدة وتتذكر.
في النهاية اكتشفوا أمره. لم يكن ثمة مناص من ذلك. كان يصل إلى عمله متأخراً، وكان عليه أن يكذب على منسقته العجوز. وما زاد الطين بلة أن شقيق زوجته تعرض للسرقة عند مدخل مكتب الكاتب العدل القريب من مكتبه. مزقوا معطفه وأخذوا محفظته، ويبدو أنهم استشاطوا غضباً، فقد ضربوه ضرباً مبرحاً. لذا منعته زوجته والطبيب من المشي في الشارع: كان المشي مضراً بالصحة من نواحٍ عدة.
كانت حقيقة لا جدال فيها أن كولستروله قد ارتفع بشكل ملحوظ وأن نبضه لم يتحسن كثيراً بتجوالاته الهائمة. لا فائدة –أخبروه- من المشي بهذه الوتيرة البطيئة. الآن هم قلقون: يبدو أنه يمشي بسرعة كبيرة جداً. هذا خطير في سنك؛ سيسبب لك سكتة قلبية!
بنجامين، افتح الباب! تصله أصوات ساندرا وزوجته. ولكنه يمثل دور المجنون، يمشي، ويمشي، ويمشي، أسرع، وأسرع. أصبحت سيقانه قوية ومعدته تقلصت؛ غير أنه متعرق ويلهث، وقلبه يتقافز في صدره. لا يهم، يوماً ما سيصل لنهاية الطريق. لأول مرة في حياته يقوم بما ينبغي عليه القيام به: يضع أهدافاً ويحققها.
في الواقع، هم أيضاُ يتحملون المسؤولية. هم الذين اقترحوا هذا الحل، بل وكانوا مسرورين عندما تم توصيل الجهاز إلى المنزل، رغم أنهم كانوا متفاجئين إلى حد ما بالمبادرة غير المعهودة التي أبداها بشرائه دون استشارة أحد. منذ سنوات لم يشتر بنجامين ولو قميصاً بنفسه. لم يكن يعرف كيف علم بوجود الجهاز في ذلك المتجر، أو كيف اقتنع فوراً بكلام البائع الذي –وهذا أغرب ما في الأمر- لم يكن يدرك سطوة سلعته.
بدون أن يقصد تقريباً، أصبح بنجامين مالك جهاز مشي؛ الأفضل في السوق، والأحدث طرازاً. لحسن حظه أنهم لن يعرفوا أبداً كم كلفه هذا الترف.
مباشرة بعد ذلك حوّل غرفة الضيوف (عديمة الفائدة، بالمناسبة) إلى ما يشبه صالة رياضية خاصة. هناك ركّب الجهاز وبطارية السماعات وشاشات العرض قارئاً كتيب التعليمات بعناية مضنية.
استهل المشي بأقل السرعات، ومنذ البداية شعر بانجذاب كبير نحو هذا النوع من التمارين الذي بدا كما لو كان مصمماً له هو شخصياً. ثمة نوع من التحرر الحميم بطريقة حزينة في المشي والمشي دون أن تبلغ مقصدك أبداً. كان قد أفنى عمره يفعل شيئاً شبيهاً بذلك.
باستثناء أنه يملك شيئاً إضافياً الآن: الفيديو الذي جاء مع الجهاز. من اللحظة الأولى التي شغل فيها شاشة العرض أيقن أن شيئاً جديداً ومهماً قد دخل حياته. الحائط الأبيض الذي أمامه كان ممتلئاً بالمنظر الطبيعي الأخضر حيث يتبختر هو من شجرة لأخرى وسط نوافير البلور وأحواض الزهور، بينما تحاكي السماعات زقزقة الطيور وخشخشة الحصى تحت قدميه. كان لوحده، لوحده بشكل رائع، الملك المتوج لكل ذلك الجمال. كان قد زود باب تلك الصالة المرتجلة بقفل مركب، وكان يحرس مفتاحه بكل غيرة، بل وينام والمفتاح بجيب بيجامته؛ لقد جُن أبوك –تقول- من الذي سينظف تلك الغرفة؟
أوضح بصبر أنه عثر أخيراً على التمرين المثالي، وأنه بحاجة للتركيز ليتحسن. كان بغاية الحيوية لدرجة أن زوجته قطبت حاجبيها، متشككة، ولكنها امتنعت عن التعليق. في النهاية كان نشاطاً صحياً، مملاً، وموصىً به من قبل الطبيب. لم تلاحظ أمارات الخطر.
بنجامين، في المقابل، شعر أن حياته اكتسبت بعداً جديداً، بالرغم من أنه سيمر أسبوعان أو ثلاثة قبل أن يلحظ تغيراً طفيفاً في المنظر الطبيعي المعروض في الفيديو. في البداية ظهرت الأصوات الغريبة، مقترحة وجود حيوانات بالكاد يمكن إدراكه. بدأ الأمر بحشرة زيز لاحقه أزيزها المزعج بعناد مسافةً طويلة من الدرب. مقتنعاً أن الحشرة تسللت إلى الغرفة عبر النافذة، أوقف بنجامين الفيديو، مصمماً أن يتخلص من الدخيلة، لكنه لاحظ متفاجئاً أن الأزيز انقطع ما أن أوقف الفيديو. إما أنها كانت مصادفة غريبة أو أنها حشرة ذات ذكاء استثنائي؛ فقد طارت مبتعدة فور إعادة تشغيله الجهاز، ولم تعد أبداً. وسرعان ما نسيها بنجامين الذي كان تركيزه منصباً على المشي -وقد أصبح أسرع من قبل- إلى أن توقف يوماً من الأيام، متفكراً، عند حافة البركة الثالثة. كان مستعداً ليحلف أنه في كل مرة يمر بالبركة كان دفق صافٍ وقوي يندفع من منتصفها؛ غير أن النافورة كانت مطفأة اليوم، كما أن لون المياه صار أخضر داكناً، وكانت بطة برية صغيرة تلعب على الضفة. متحيراً، أرجع بنجامين الشريط إلى الوراء ثم شغله من البداية وعاود المشي. هذه المرة تدفقت النافورة، لم يكن هناك شك بخصوص ذلك، ولكن البطة الصغيرة ظلت في مكانها. غريب أنه لم يلاحظ ذلك أبداً من قبل.
أدرك للمرة الأولى أنه لم يسبق له أن تجاوز البركة، وكان نهشاً للفضول. أطال مدة جولاته، ثم بذل جهداً ليزيد من سرعته. كافأ الفيديو مجهوداته: راح المنظر الطبيعي يتغير. بدأت أشجار المنتزه تأخذ أشكالاً جديدة، وعلى جانبي الدرب ظهرت الآن بوابات حديدية منمقة بعناية لمح وراءها قصوراً فارهة مكونة من طابقين أو ثلاثة ومحاطة بالحدائق. في اليوم الثالث، وهو يلهث من الإجهاد، وصل إلى منزل جميل للغاية، مبني بالخشب ومغطى باللبلاب الكثيف. بدا المنزل مألوفاً بالنسبة له على نحو مبهم. أراد أن يعرف من الذي يعيش هناك، أن يقرع الجرس ويدخل، ولكن قوانين الجهاز لم تكن تسمح بذلك. ما كان بمقدوره إلا أن يظل في المسار، ماشياً ببطء دون أن يرفع عينييه عن الستائر الصفراء البهيجة التي تحجب اللغز الذي بالداخل، مرهفاً أذنيه ليلتقط الضحك الخافت لأطفال يلعبون في مكان ما بالحديقة. فجأة اندفعت الذكرى إلى الأمام: هي، شابة ومفعمة بالحياة، تقص بعض الصور من إحدى المجلات، البيت الذي حلمت به لمستقبلهما المشترك. كان يعرف في قرارة نفسه أنها لم تكن محض مصادفة؛ صورةً جزافية في الفيديو. كان المنزل هناك لأجله هو: ضربٌ من حيلة إلهية. كان بنجامين مصعوقاً. توقف عن التمرين واختفت الصورة، تاركةً إياه متعرقاً يلهث أمام الحائط الأبيض الخالي في غرفة الضيوف السابقة.
لم يتمكن من النوم في تلك الليلة. شخيرها غير المعتاد وأصوات الاحتفال التي تنسرب قادمة من غرفة ساندرا فاقمت حماسه المحموم. شديداً كان تحرقه للعودة إلى ذلك المنزل بحيث ما أن حلت الساعة الخامسة صباحاً حتى كان متأنقاً في بزته الرياضية الرمادية.
“هل سقطت من على السرير؟” في نزوة مباغتة أراد أن يأخذها معه –تعالي معي، أريد أن أريك شيئاً. أدارت ظهرها له، غير راغبة في الإذعان لحماقة كتلك. “في هذه الساعة؟ أنت مجنون”. هكذا ربت بنجامين على لفافات الشعر الرغوية الناعمة فوق رأسها، وتخلى عن فكرة مشاطرة اكتشافه معها.
وخيراً فعل: كانت ستنعته بالمجنون. من البركة الثالثة انبثقت نافورة صافية وكانت عائلة من البط تسبح الآن في الماء، ولكن لم يكن هناك أثر للمنزل المغطى بأوراق اللبلاب. بحث عنه عبثاً بينما راح يمشي مغتاظاً. خلّف وراءه البوابات الحديدية والقصور، بينما كان الدرب قد استبدل بشارع عام ذي مسارين يمر عبر منطقة ريفية مضجرة. تموجت في الأفق هضاب مستوية مزرقة. فوق واحدة منها لاحت مدينةٌ ما، كرسمة بعيدة. بعد أيامٍ قليلة توقف باحثاً عن المنزل، مركزاً كل جهوده في سبيل بلوغ المدينة.
“ماذا بك؟” سألته. “أنت مشتت الذهن أكثر من أي وقت مضى. لك نفس نظرة ساندرا المزججة عندما كانت في ذلك المصح. ونسيت أن تتصل بالبنك بخصوص بطاقتي الائتمانية… أنت أسوء من أي وقت مضى. تنسى كل شيء. كل شيء!”
كانت محقةً هذه المرة: نسي كل شيء. ولكنه شعر بأنه أفضل من أي وقت مضى. داعب بنجامين المفتاح في جيبه يغمره شعور دفين بالترقب، ولم يُطِق انتظار جلسة التمرين القادمة. الآن بات يمشي عدة مرات في اليوم، حابساً نفسه مع الجهاز لمسافات أطول بكثير. لسوء الحظ كان الفيديو مصمماً ليحث على الزيادة التصاعدية في المجهود: لم تكن ثمة طريقة لإعادة تشغيله من نقطة محددة في الطريق، كان الشريط يلف عائداً إلى البداية دائماً. فإذا ما أراد الذهاب إلى النهاية، حيث ترتفع المدينة البعيدة فوق الهضبة، أو أبعد من ذلك، من يدري، كان عليه أن يعود في كل مرة إلى نقطة البداية، وأن يعبر المنتزه، ويجري حول البرك، الدرب، القصور… الشارع العام الذي يظهر بعدها والذي بدا لا نهائياً.
“لقد جننت” قالت. “انظر إلى نفسك حين تغادر الغرفة. شاحب الوجه. بالكاد تستطيع التنفس من الإرهاق. قال الطبيب أن هذا خطِر عليك؛ لا يمكنك فعل ذلك. إنه أسوء من اختبار إجهاد القلب. لا ينبغي أن يقوم شخص باختبار إجهاد القلب دون إشراف طبي”.
كان هذا صحيحاً. في مكان خفي من وعي بنجامين كان يدرك أنه يتوجب عليه إبطاء سرعته. أصبحت سيقانه أقوى، ولكن قلبه ما عاد يتحمل. الليلة الماضية شعر بألم في صدره مجدداً؛ فاضطر إلى إيقاف الجهاز والاستلقاء بجانب الطريق لاهثاً، دون أن يزيح بصره عن الهضاب البعيدة، إلى أن تلاشت في بياض الأفق. مال الجدار عليه وهو يحاول الجلوس على السجادة، بينما امتلأت أذناه بأزيز الفيديو الحرون وهو يلف راجعاً إلى بداية الطريق.
كانوا يخبطون على الباب الآن. سمع أصواتاً، قهقهة ساندرا الغبية، صراخ أبناء موريسيو، اخرج يا أبي، اخرج يا جدي. نريد أن نأكل!
“بنجامين، هذا يكفي! انس أمر الطاولة. لقد جهزتها بنفسي. فقط اخرج. أيها العجوز السخيف. سوف أبيع ذلك الجهاز اللعين. إنه يضرك!”.
كان بنجامين قد بلغ لتوه سفح الهضبة الأولى، وبدأ الصعود الذي لطالما حلم به. رجع الألم، حاداً. هذه المرة في ذراعه اليسرى. تضببت رؤيته قليلاً، ولكن المدينة ليست بعيدةً الآن. فرصته الأخيرة للهرب. هناك سيجد شارعاً آخر يعرض فيه الباعة المتجولون عجائبهم الزهيدة له وحده على امتداد الرصيف. ربما كان هناك مكتب آخر. ربما كان هناك منزل آخر. ربما ستمر سيارة وتقله، لأن وقته ثمين.
“بنجامين” رجَته، بصوت قلقٍ الآن. “افتح الباب يا بنجامين”.
يقول موريسيو شيئاً عن صانع الأقفال الذي هو الآن في طريقه إليهم. بنجامين يتوق إلى ملاذ تلك المدينة. يا للصدمة التي سيصابون بها حين يكسرون الباب أخيراً.
يعرف أنه إذا ما وصل إلى هناك في الوقت المناسب فإنهم لن يستطيعوا أخذ الجهاز. ولا أي شيء آخر. الوصول إلى النهاية ذو أهمية قصوى… هدف، باختصار. إن تمرن بشكل كافٍ، سيصل إلى هناك. هي مسألة ممارسة لا أكثر.
بعينين مثبتتين على الهدف، يستحث بنجامين خطاه.
*كاتبة فنزويلية.
*أفشين (مسيحية): صلاة مطولة عبارة عن سلسلة من الابتهالات.
*مستيسا (مؤنث مستيسو): تطلق على الأشخاص مختلطي الأعراق ذوي الأصول الأسبانية والهندية.
فيصل الحضرمي
2019/2/11