الكاتب : موردخاي روشولد
الترجمة: ناصر محمد الكندي
ستيفن تسفايج (1881-1942) وفرانتس كافكا (1883-1924) كان من الممكن أن يتقاطعا في أشياء مشتركة وينتميا إلى نفس الصنف في الأدب الحديث . تفصلهما سنتان فقط في الولادة، وينتميان إلى نفس العصر. على الرغم أن تزفايج ولد في فينّا وكافكا في براغ، فالإثنان كتبا باللغة الألمانية. وبراغ ، على الرغم أنها مركز منطقة التشيك، كانت إلى عام 1918م مدينة خاضعة للامبراطورية النمساوية – الهنغارية . صادف أن كلاًّ منهما كان يهوديا ، واحتفظا بموقف إيجابي من اليهودية والتي ربما أثّرت في كتاباتهما ، على الرغم من عدم هيمنتها عليهما.
حتى الأن، أي شخص يحلّل أيّاً من كتاباتهما ، ناهيك أن أعمالهما البارزة مألوفة للجميع ، لا يستطيع إلا أن ينصدم بالاختلاف العميق بينهما. فهما يبدوان وكأنّهما لم يعيشا نفس القرنين، بل أيضا في عوالم متباينة. يبدو أنّهما يعودان ليس فقط إلى عصور مختلفة، بل إلى عصور فكّكتها أحداث رهيبة. تسفايج ، كما هو يشرح بإعجاب في سيرته الذاتية ” عالم الأمس ” بأنّه نشأ في بيئة اجتماعية كانت تؤمن بالاستقرار والتقدم . لقد كان مأخوذاً جداً بالحياة الثقافية في فينّا ، وفي نفس الوقت ، اعتبر نفسه أوروبياً ، ومحتفظاً بتواصل قوي مع الأوساط الأدبية الفرنسية. كانت الحياة في فينّا في مطلع القرن التاسع عشر متينة ومريحة ومحفّزة . وعلى الرغم أن تسفايج كان منتفعا بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ، وكان واعيا أن لا أحد يزاحمه في ظروفه الاقتصادية ، إلاّ أنّه كان مؤمناً أن المجتمع بأكمله منتفع من تحسّن الأوضاع المستمر ، وأنّ التقدّم نحو أوروبا أفضل – وأخيراً عالم أفضل- كان يقيناً تقريبا . هذه النظرة الإيجابية ، والتي ربما عُززت بشخصيته الناضجة، كان لها الأثر العميق في أعمال تسفايج ، خاصة أعماله الأخيرة.
لا يعني ذلك أن تسفايج – الكاتب – قدّم لقرّاءه مواضيع متنوعة في أجواء مثالية ، أو أنه روى قصصاً متنامية على طول طريق التقدم للعالم المثالي. فعلى الرغم من إيمانه بالسّير نحو الأفضل ، لعدالة أكثر ، ولعالم أكثر سلاماّ ، إلا أنه كان واعيا بمآسي الإنسان ، وبعيوب الشخصية الإنسانية في الصراع المأساوي . في الواقع ، غالباً ما يكون مدفوعاً برغبة كشف الإخفاقات الإنسانية بقصد ضمني للمساهمة في تعديل العيوب الأخلاقية للإنسانية. في القصص الطويلة المتنوعة ، التي جعلته كاتبا مشهورا ، نبّه إلى السقطات الأخلاقية بشكل أساسي في الناس الخيّرين . كان شعار روايته الكبيرة ، حذار من الشفقة (1938) ينقل تمييزا نقيّا بين التعاطف المشترك والتعاطف الحقيقي:
هنالك نوعان من التعاطف : الأول ، حماسيّ ضعيف وعاطفي ، والذي هو في الحقيقة نفاذ صبر في القلب للتخلص بقدر الإمكان من تورّط مؤلم أمام كارثة غريبة. التعاطف الذي ليس تعاطفا ككل، لكنه دفاع غريزي لروح الإنسان من المعاناة الغريبة. أما الثاني ، ذلك الذي يعتبر غير عاطفي، وإنما التعاطف المبدع، الذي يُدركُ ما يحتاج، ومصمّمٌ بصبر وأناة لتحمّله كاملا وفقا لحدود القدرة البشرية ، أو حتّى إلى أبعد منها .
بلا شك، العالم بعيدٌ أن يكون فردوساً مستعاداً. لا يزال ، وهو متحضّر أساساً وغالباً إنساني، يبدو أنه يتحرّك نحو الاتجاه الصحيح، إنّ الكاتب ، متمتعاً بالبصيرة ، يفسّر الحالة الإنسانية ، ويقّدم مساهمته لتقدّمها ، لم يُعلن تسفايج صراحة عن التزامه في هذا الصّدد، ولكن فكرته الجدلية لعمله تبرّر هذا الاستنتاج.
إن تاريخ أوروبا ، الذي اجتاح تسفايج مع معاصريه جنباً إلى جنب ، أيقظه من هذا الواقع الوهمي . تم الزجّ بأوروبا في الحرب العظمى عام 1914م، وتحطّم الإيمان بالحضارة الأوروبية وتقدّمها. أغلب الأمم المتقدمة شرعت في مذابح متبادلة في النِّسب الكارثية. إن الخوف ، الدمار ، الفقر – من الأشياء التي شهدها تسفايج في مناطق النزاع بين النمسا وروسيا – لا يمكن أن تمتّ بصلة إلى الصورة الوردية في حياته المبكرة. بطبيعة الحال ، بدأ عمله يعرض الجانب المظلم في الحالة الإنسانية.
وهكذا، في قصّة بعنوان “Buchmendel” (1929) ، محبٌّ للكتب يختار في سبيل العيش أن يكون تاجر كتب، والذي صادف أن يكون تقنيّا عدوّاً غريبا في فينّا أثناء الحرب، يُسحق من خلال الجهاز البيروقراطي للدولة. الحكومة ليست شريرة أو قاسية اتجاه مندل : إنّها بالكاد تعمل بطريقة إجرائية ، ميكانيكية، لا مبالية. النتيجة هي تدمير الفردية الإنسانية. هنا يُلمّح تسفايج إلى خطر جديد لتقدم الإنسان: تهديد الدولة ، لفياثان هوبس في مانفيستو قرنه العشرين.
ومع ذلك ، مع كلّ الإدراك الحاد للعالم المتغيّر ، والتوتّر أو حتّى الإيمان المنهار بمستقبل أفضل للنّمسا ولأوروبا، لم يتخلّ تسفايج عن إيمانه الراسخ والتزامه بأخلاق التقدّم. في “إرميا” (1917) دراما كُتبت خلال الحرب وتهدف إلى نشر رسالة سلام ، وضع في فم نبيٍّ قديم عِبري وعد الأمل- الأمل لليهود، والتي ربما ترمز إلى الأمل بالإنسانية المتحضّرة :
حجارة تنهار،
جدران تسقطــ،
مدن تختفي في تيار الزمن،
ولكن ، ماهو شكل الأرواح المعانية التي تستمر في الخلود الالهي؟
من الذي يستطيع سلب الإيمان المبارك منا ؟
من دمّر أورشليم في قلوبنا ؟
للأسف ، حتّى هذا البصيص من الأمل أصبح مُعرّضاً لامتحان قاسي مع صعود النازية في السلطة، والتي ضربت تسفايج مباشرة، كونه يهودياً أوروبيّاً. لقد شهد بنفسه أولّاً حرق الكتب المحرّمة في الساحة العامة ، والتي ضمّت الإصدارات الألمانية للكتاّب اليهود. شعر فجأة بأنه تم بتره من القرّاء الألمان . بعد ذلك أتى ضمّ النمسا ، مصحوبا بالإذلال العام ليهود فينّا ، والذي وصفه بتفصيلٍ مؤلم في ” عالم الأمس” . وبينما استطاع تسفايج الفرار إلى انجلترا ، وبينما مصادره أمّنوا له أسباب وجود مريحة ( ظلّت كتبه ذات شعبية في العديد من الترجمات ) إلا أنه شهد مرعوباً محنة اللاجئين اليهود الباحثين بيأس عن بلد يمكن قبولهم فيه . لقد كانت الإهانة البشرية غير محتملة.
أخيراً ، وصل تسفايج وزوجته إلى البرازيل حيث تم استقباله بنبل، وحيث استمر في الكتابة. حتى ذلك الوقت، إنهار عالمه، ومع تقدّم الجيش الألماني الذي يبدو أنه لا يتوقف عن التقدم إذ الحرب العالمية الثانية قائمة، كان يبدو أنّه قد يأس من المستقبل ، ووضع نهاية لحياته وزوجته. كان مسكوناً في نهاية المطاف بتدهور الحضارة الأوروبية كما هو واضح في أعمال الإبادة. لم يعش ليرى تغيّر الحظوظ في الحرب.
بينما يستطيع المرء أن يستعرض حياة تسفايج كشاهد على انهيار الحضارة ، وكمأساة شخصية لشخص حكم عليه بدمار أمله وإيمانه، فالجدير بالذكر أن أعماله لم تعكس بصدق هذه المآزق الرهيبة. بالتأكيد، كان يكتب عن تدهور و أحداث تاريخية ممزقة، و قد عبّر عن يأسه الشخصي بذلك . لكن، تهيمن على فحوى كتاباته طريقة متحضّرة ورصينة في التعبير و، مع بعض الاستثناءات ، الأمل و الإيمان بالرغم من التجربة المريرة.
يبدو أن تسفايج عاجزٌ عمليّاً عن استيعاب لهجة استقالته ويأسه. ذلك أن الأسوء تم طرحه بأسلوب، و البؤس كان مطليّا بألوان واضحة. وحتى رسالة انتحاره كانت لشخص متحضّر يتحكم بكامل قواه العقلية وعواطفه. بطريقة ما ، كان مؤمناً بعمله بالرغم من تقلّبات الزمن والتاريخ.
إن شخصيته العاطفية والرحيمة، وأسلوب أدبه الشفّاف والرّصين والواضح هما اللذان حبّبا إليه قرائه- سواء في البلدان الناطقة بالألمانية ، أو في أوروبا بوجه عام. كان كاتبا شعبيا جدا، حتى أنّ بعض أعماله تحوّلت إلى أفلام. كان واثقا بنفسه ككاتب منذ سنّ مبكرة ، كان قصة نجاح ، كان العالم الذي فشل.
والغريب أنه أصبح غير معروف الآن، قليلٌ فقط من الأوساط الأكاديمية والأدبية في الولايات المتحدة الأميركية يعرفون أعمال تزفايج.
إن حياة وعمل فرانتس كافكا يبدوان نقيضاً صارخاً لمعاصريه ، لم يكن كافكا واثقا بنفسه، حتى أنه أوعزَ لصديقه الأدبي والشخصي “ماكس برود” بتدمير مخطوطاته والذي- لحسن الحظ – رفض الأخير فعلها. بينما تسفايج يُبهر قرائه ككاتبٍ سهل ، تبدو نصوص كافكا نتاجاً لجهد شاق ومؤلم . إن أعمال تسفايج تسرّ القارئ، وهي ممتعة وملتزمة. بينما قصص كافكا ، خاصة عمله الرئيس ” القصر” (1926) ، يصعب وصفها بأي طريقة بأنها تسرّ . في الواقع، قدّمت القارئ لعالم خيالي طارد ليس بسبب مظالمه فقط، ولكن بسبب العمل الشاق والملل. بطل كافكا في ” القصر” الذي بالكاد يسميه “ك” ليس ملتزما ولا ممتعا، ليس نبيلا أو منبوذا، ليس بطلا أو نقيض بطل . في الحقيقة ، هو متواضع إلى حدّ ما وعالق في وضع لا يمكن وصفه بطوليّا أو دراميّا. هو رجل رمادي أُودع في مكان رمادي، ويواجه من قبل أناس متواضعين. وبيئته ليس بها تلك المواضيع التي تُصنع فيها الروايات العظيمة.
ومع ذلك ، أنها تلك الرمادية ، القصّة الهادئة للقصر، فضلاً عن بعض الأعمال الأخرى لكافكا ، هي التي حظيت بإشادة نقدية و تعتبر من الكلاسيكيات الحديثة وتُعلم وتُدرس في الجامعات . لماذا حظي كافكا بهذا الاهتمام والتقدير، في حين أُهمل تسفايج إلى حد كبير وظالم ؟
إن السّبب الرئيس لهذا التباين ينبغي أن يعود إلى ذلك المجال بعيد المنال للعلاقة بين أعمال الأدب والواقع. أعمال تسفايج، مع كل سحرها ورصانتها ، كانت تغدو، في سياق إنهيار أوروبا، قصصاً لعالم الأمس . أما أعمال كافكا ، في الجانب الآخر ، فقد تنبّأت بعالم الغد. اليوم ، بقرائتنا لكافكا ، شعرنا بالواقع الكئيب الذي بدأ يحدث مؤخرا ، وهذا ما يجعل أعماله ذات طبيعة تنبّؤية . أعمال تسفايج تثير الماضي، مهما كان جميلا، بأمانيها الخاطئة عن المستقبل المبارك والذي لم يفضِ إلاّ إلى الوهم . ولا يهم سواء كانت رؤية كافكا واعية جدا أو ابتكر إلهاما غامضا . فقد ثبت بأنه كشف الحقيقة الوشيكة والتي يجعلها بهذه الصلة شيئا مؤلما.
كان نثر تسفايج ، وشعره أيضا ، نبيلا وساحرا – وفقا لرؤيته الوهمية . حتى في قصّته الطويلة الأخيرة “لاعب الشطرنج” (1941) والتي تسجّل أحداثا في فينّا تحت الحكم النازي الجديد ، وإذ يجد فيها نفسه في موقف كافكي بلا أمل ، فإن وصف تسفايج يظلُّ واضحا وعقلانيا. الكاتب يلمّح إلى التفسير العقلاني الذي يثوّر الواقع.
كافكا ، بالمقابل ، يقمع أيّة محاولة لتفسير الشيطان والعبث، بطله (ك) واقع تحت نظام لا يفهمه ، وكل ما نعرفه، حتى الكاتب نفسه لايدركه. (ك) هو الضحيّةّ العارضة للنظام الاجتماعي – السياسي المحيّر، وكل محاولة له للدخول إلى السلطة الحاكمة تبوء بالفشل . إن القصر يمثّل النظام الاجتماعي، مؤسسة، التي يخضع لها الأفراد وعلى كلّ شيء لايجرؤون على مناهضته. النظام يسود والأفراد غير محسوبين فيه ، النظام يحتاج أن يكون قاسيا ، لكن غير مفهوم . حتى أن الأشخاص لا يحاولون أبداً معرفة طبيعته. هم يقبلونه بسلبية. إن هذا الوضع من الاستحالة تصويره بطريقة عقلانية ، ناهيك عن جاذبيته. ويمكن فقط وصفه بلهجة كئيبة ورتيبة. إنّ النظام يرزح بثقله على الرواية ، على الكاتب ، وأخيراً على القارئ.
كانت هناك عدة محاولات لتفسير أعمال كافكا . بعضها يشير إلى عجز الفرد في مواجهة البيروقراطية النمساوية – الهنغارية ، والتي ربّما لم تكن مترويّة وخيرّة مثلما أراد المعجبين بحكم هابسبرغ لرؤيته. الآخرون اعتبروا (ك) رمزا لليهود في واقع اجتماعي – غريب يكافح وهو محكوم عليه بالفشل . (ك) ربما يرمز إلى الكائن البشري بمحاولته غير المجدية في التواصل مع الإله البعيد، يظل الإنسان بصفة جذرية غريبا في هذا الوجود الكوني.
يبقى الانطباع الساحق بأن يكون الفرد في الأزمنة الحديثة – في المستقبل من منظور كافكا – عاجزا في وجه النظام والوضع الاجتماعي الذي يجد نفسه فيه. تمّ التعبير عن هذه الهواجس في الروايات المستقبلية في القرن العشرين ، ممثلة ب بفجيني زامياتين (1929) وجورج أورويل 1984(1949) و ألدوف هكسلي في “عالم جديد شجاع “(1932) . إن الأنظمة المُصوّرة ربما تكون فارغة مثلما هو الحال في المثالين الأولين ، أو حسنة النيّة ظاهربا مثل رواية هكسلي. على كل حال ، في كل قضيّة النظام يحكم الفرد، ولا يسمح له بالتطور للحكم الذاتي أو الحريّة في الحكم . شعر كافكا بهذا الخطر ولهذا استشفّ النقاد الدوافع الكافكية في الأدب الحديث. تزفايج، كان يدّخر احتمالا كابوسيا.
كيف يمكن شرح التباين في الرؤى والأسلوب بين هذين الكاتبين المعاصرين ؟ من المتصوّر، أن خلفيّاتهم المختلفة لها دور في هذا التباين. ولد تسفايج في عائلة ثرية ، في حين كان كافكا قلقا في سبيل العيش. كان لتزفايج الحرية في اختيار عمله ، بينما كان كافكا مقيّدا من قبل والده لاختيار وظيفة ” حسّاسة” لا تناسب مزاجه وعبقريته. عاش تزفايح في فينا بينما عاش كافكا في التشيك حيث المنافع من الحكم النمساوي مشكوك فيها.
مثل هذه الكشوفات لها درجة من الاحتمالية. ومع ذلك ، في نهاية المطاف ، طريقة الكاتب، الكاتب الموهوب والملهم ، لا يمكن تفسيرها بطريقة كافية بظروف عرضية . العبقرية الأساسية للكاتب تظلّ لغزا ووحيا ، والذي يظهر بأنه ليس نتاجاً لنظام.