بقلم: د. وفاء الشامسية*
المقدّمة:
كانت القدس، وما زالت، محور اهتمام كثير من الشعراء الذين رسموا صوراً لواقع المدينة، معتمدين على إبراز معاني القداسة والطهارة حيناً، وتبيين معاني الحزن والألم التي تحياها القدس في ظل الاحتلال حيناً آخر. وقد ظهرت هذه المعاناة من خلال استعراض تاريخ المدينة العريق، وحاضرها المؤلم، مؤكدة عجز الواقع العربي الراهن، وتقصيره تجاه القدس التي تئن تحت وطأة الاحتلال.
من هنا نجد أن القدس تشغل مكانة دينية وتاريخية وروحية عميقة في قلب كلّ عربي مسلم، وكل مسيحيّ مشرقيّ. وقد اتخذت أبعاداً مختلفة في القصيدة العربية: دينية، وسياسية، وتاريخية، ووطنية، وقومية، وروحية وجدانية، مما أوجد تنوّعا في تمثّلات القدس في الثقافة العربيّة المعاصرة، وبما أن الثقافة العمانية جزءٌ من الكلّ؛ فإن الباحثة ستتناول في هذه الورقة البحثية تمثّلات مدينة القدس في الشعر العمانيّ، متبعة المنهج التحليلي لرصد هذه التمثّلات التي ظهرت في قوالب شتّى، منها القالب الديني، والتاريخي، والأسطوري، والروحي، انتقالاً إلى الجانب الوجداني وغيره من الملامح العامّة التي يتّسم بها الشعر العماني المعاصر، وسيتم استعراضها والتدليل عليها في متن الورقة.
مصطلحات الدراسة:
التمثّلات في اللّغة: جمع مفرده تمثّل، وهي كلمة مشتقّة من (المِثْلِ) و(المثيل)
وقد أورد ابن منظور في لسان العرب تعريف المثل بقوله: المثل: الحديث نفسه، وقوله عزّ وجلّ: (للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى، وهو العزيز الحكيم) سورة النحل، الآية 60. (1)
وجاء في معجم مقاييس اللغة لأبي الحسن أحمد بن فارس في باب الميم والثاء وما يثلثهما أن “الميم والثاء واللام أصل صحيح يدل على مناظرة الشيء للشيء، وهذا مثل هذا أي نظيره…” (2)
وعرّفه الزبيدي على أنه: “وقد مثّل به تمثيلا وامتثله وتمثّله، وتمثّل به … على أن هذا قد يجوز أن يريد به تمثل بالأمثال.. وتمثّل بالشيء: ضربه مثلا …” (3)
والتمثل عند ليتري: “هو استحضار الأشخاص أو الأشياء إلى الذاكرة أو الذهن”.
وتعرّف الباحثة التمثّل أنّه: استحضار الصورة الدينية أو التاريخية أو الجغرافية، أو الوجدانية لمدينة القدس من الذاكرة العامّة للمجتمع، إلى ذهن الفرد – الشاعر- لتظهر في نسقٍ مطبوعٍ بالجوانب الوجدانية والمعرفيّة والاجتماعية له.
توطئة: مدينة القدس في الوجدان العماني
تحتل القدس مكانة مرموقة عند كل أصحاب الديانات، فهي عند المسلمين أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى النبي عليه الصلاة والسلام، وهي عند النصارى مهد المسيح ومكان مولده، وهي عند اليهود المكان الذي عاش فيه ملوكهم وبني فيه هيكلهم، وإليها سيعود المسيح حتى يقودهم إلى سيادة العالم– على حد زعمهم –
يقول الباحث والكاتب الأستاذ أحمد الفلاحي: الشعر العماني مليء بفلسطين ونكباتها وفجائعها وصراعاتها وشهدائها وبطموحاتها وآمالها وتطلعاتها واستشراف مستقبلها. ومن الصعب الوقوف مع كل شاعر أو شاعرة …. وإنما هي نماذج تشير إلى لمواقف هذا الشعر واحتضانه لهذه القضية المحورية التي هي قضية كل العرب وقضية المسلمين كذلك.
وعندما نقلّب الوثائق للعودة إلى حضور مدينة القدس في القلب العمانيّ، فإني استحضر نص برقيّة نشرته جريدة الشباب المصرية عام (1973 م) بُعث من أهالي مسقط إلى وزير المستعمرات البريطاني احتجاجاً على مشروع تقسيم فلسطين، حيث إن العمانيين احتجوا على قرار اللجنة الملكية البريطانية الخاص بتقسيم فلسطين قبل صدور قرار الأمم المتحدة عام (١٩٤٧م)، وجاء في متن هذه الرسالة ما يلي: “نحن -أهالي مسقط – نشارك إخوتنا أبناء فلسطين سكّان الأماكن المقدسة، ونؤازر العالمين العربي والإسلامي في الاستنكار الشديد والاحتجاج الصارخ على قرار اللجنة الملكية القاضي بتقسيم فلسطين، ونطالب إلغاء ذلك القرار وإبقاء فلسطين لأهلها العرب وفق ما تمّ الاتفاق عليه بين الفرقة البريطانية وبين ممثلي العرب عام 1910م” وقد وقّع على البرقية زهاء خمسين عالماً ووجيهاً من مسقط.
مدينة القدس في الشّعر العماني:
سأبدأُ استعراض الحضور الشعريّ لمدينة القدس في الشعر العمانيّ بما ذكره الفلاحي (4) في مقاله المنشور بجريدة الوطن العمانيّة (5 مارس 2017م) أنّ الشاعر صالح بن علي بن مسلم الخلاسي (ت: 1362هـ) ندّد بالمؤامرة الخطيرة، وكان ذلك في أواخر الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات خلال الحرب العالمية الثانية وقبلها، وبروز ما سمي وقتها بالمسألة اليهودية وبدايات الهجرات الصهيونية المكثفة من أوربا إلى فلسطين وكان ذلك قبل نشوء إسرائيل بنحو عقد من السنين حيث قال في قصيدته:
فلسطين أحاط بها الأعادي
بجهر أو بكيد الخافيات
يمزق شملها ظلما وقهراً
بعدوان الجيوش الظالمات
ليطرد قومها منها جهاراً
وتهدى لليهود من الشتات
فهل من محنة حلت بناس
كهذي في العصور المظلمات
لقد سلبوا مزارعهم وباتت
بيوتهم تملك للبغاة
لصوص جمعوا من كل قطر
وجيء بهم لإجرام الغزاة
ليغتصبوا الديار ومن عليها
بسفك للدماء الطاهرات
غدت إنجلترا تحمي حماهم
وتهديهم لفعل المخزيات
ثمّ تأتي قصيدة (مهر فوز) للشاعر عبدالله الطائي، عام 1945م، التي بنيت بشكل دراميّ لافت، ففوز تطلب من خطيبها وليد أن يكون مهرها أخذ الثأر من العدو، وكان لا بدّ من تأجيل زواجهما حتّى تقوم الثورة، ويعود اللاجئون بعدها إلى ديارهم. (5)
وقد قال سماء عيسى في إحدى مقالاته عن عبدالله الطائي: كتب أجمل قصائده في فلسطين كما كتبها في عمان. وذلك لأن فلسطين احتلت في روحه وفكره مكانة حب وعشق لا ينضب . أهم القصائد عن فلسطين كانت: رسالة من يافا، مهر فوز، أبو رمزي يحدث نفسه أمام الجسر، فلسطين أمام الجدار، رسالة من الجبهة. ومما كتبه الأديب الطائي عن القضية الفلسطينية استعرضه مرتّباً ترتيباً تاريخياً : (7)
– قصيدة “مهر فوز” (1954 م) – ديوان “الفجر الزاحف”.
– قصيدة “رسالة من يافا” (مايو 1965 م) – ديوان الفجر الزاحف.
– قصيدة “انفخوا النار” (10-6-1967 م) – ديوان “وداعا أيها الليل الطويل”.
– قصيدة “موكب البطولات” (1967 م) – ديوان “وداعا أيها الليل الطويل”.
– قصيدة “أبو رمزي يحدث نفسه على الجسر” (1967 م) – ديوان “وداعا أيها الليل الطويل”.
– قصيدة “عائد من عمان” (13-6-1966 م) – ديوان “وداعا أيها الليل الطويل”.
– قصيدة “فلسطين أمام الجدار” (8-6-1966 م) – ديوان “وداعا أيها الليل الطويل”.
– قصيدة “رسالة من الجبهة” (1967 م) – ديوان وداعا أيها الليل الطويل”.
– قصة قصيرة “عبدالبديع” – مجموعة المغلغل القصصية.
– قصة قصيرة “دوار جامع الحسين” – مجموعة المغلغل القصصية.
– قصة قصيرة “مأساة صبحية” – مجموعة المغلغل القصصية
المصادر:
1-ابن منظور، لسان العرب طبعة جديدة اعتنى بتصحيحها أمين محمد عبدالوهاب ومحمد الصادق العبيدي، الجزء13، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط3، 1993، مادة (مثل) صـ(22، 23، 24)
2-أبو الحسن أحمد بن فارس بن زكريا، معجم مقاييس اللغة. (2002). تحقيق وضبط عبدالسلام محمد هارون، ج5. ص227.
3-محمد بن محمد أبو الفيض الزبيدي، تاج العروس، دار الهداية، مادة (مثل)، صـ 149
4-الأديب أحمد الفلاحي، كاتب وباحث عماني
5-ديوان “الفجر الزاحف”، الطبعة الأولى 1965م، دمشق (ص 50 – 54)4-
6-سماء عيسى، جريدة الوطن العمانية. مقال (عبدالله الطائي، رحابة الإبداع العماني). ملحق أشرعة 13 مارس 2016.
7-مدونة عبدالله الطائي http://abdullah-altaie.blogspot.ae/2008/02/blog-post.html
*عضوة مجلس إدارة الجمعية العمانية للكتاب والأدباء/ مشرفة فرع الجمعية في محافظة البريمي
أكاديمية بجامعة الإمارات العربية المتحدة