عقيل يوسف عيدان – باحث وكاتب كويتي
مع أن الفلسفة ما تزال تحظى بشعبية، إلا أن هذا لا يعني أنها في صحّةٍ جيدة. فرغم ازدياد شيوع الأعمال التي تُبسّط أفكار الفلاسفة وتوضيحها، إلا أننا نفتقر إلى فلاسفة من عيار برتراند راسل ومارتن هيدغر وجان بول سارتر وهنري برغسون وغيرهم. فكيف يُمكن تفسير هذه المُفارقة؟
في رأيي، يعود ذلك لازدراء إمكانية تطوير نظريات طموحة منذ بروز عصر ما بعد الحداثة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، حيث لم يعد أحد ينسج أنظمة للإجابة على الأسئلة الكبرى في الميتافيزيقا، ونظرية المعرفة، والأخلاق، والسياسة.
عند هذا الحد، يشير مصطلح “الفكر الضعيف”، الذي ابتكره الفيلسوف الإيطالي جياني فاتيمو، إلى أنه يجب إبقاء الأسئلة من دون إجابة وأن طرح قيم عالمية يعد أمراً ساذجاً. لقد ولَّى عهد السرديات الكبرى، وأصبح الشك واليقين النسبي هما السائدان. لقد ألغى عصر التنوير العقيدة – وهي خطوة ضرورية ومُحرِّرة. مع ذلك، تجاهلت حقبة ما بعد الحداثة مفهوم الحقيقة، مؤجّجةً العدمية أو أدّت إليها ونهجاً أكاديمياً عقيماً أو غير مثمراً. وقد أدى هذا إلى تهميش النظريات والتفسيرات الجديدة لصالح تمارين تأويلية مُملّة مشبعة بالمصطلحات التقنية.
أصبحت الحواشي عبثية وغير ذات جدوى، لتحلّ محلّ النص، الذي اختُزل إلى خيطٍ واهٍ أو هشّ هدفه الوحيد هو ربط الاقتباسات ببعضها البعض.
لقد أصبحت الفلسفة لعبةً غريبة، ولن تتعافى إلا إذا سعت من جديد إلى تقديم إجابات مُقنعة لأسرار الوجود العظيمة. ومع أنني لا أتفق تماماً مع المعتقدات الراسخة، إلا أنني أؤمن بضرورة القناعات لأن اليقين من جواهر الحياة الكريمة.
شخصياً، أشكّ في أن أفلاطون أو هيغل أو كانط كانوا سيسعدون بمعرفة أن الفلسفة قد انحصرت في تفسير نصوصهم، وتحليل أفكارهم بشكل متكرّر من دون محاولة لتطبيقها على تحدّيات العصر الحديث.
إنّ البحث عن المعنى هو الدافع الأسمى للإنسان، وهو ما يميّزنا ككائناتٍ واعية تسعى لفهم وجودها ومكانها في الكون. ومهمّة الفلسفة هي مرافقة هذا المسعى، وتقديم الأدوات والمفاهيم التي تساعدنا على استكشاف هذا المعنى. على سبيل المثال، يمكن للفلسفة أن تساعدنا في فهم الأخلاق، والعدالة، والجمال، والحقيقة، وهي مفاهيم أساس لتوجيه حياتنا واتخاذ قراراتنا.
إنّ تجنّب هذا التحدي؛ أي تحدي البحث عن المعنى وربط الفلسفة بالواقع، لن يؤدي إلا إلى تعميق أزمة الفلسفة، وتحويلها إلى ما هو أكثر من مجرد علم آثار، حتى لا أقول حفريّات! فبدلاً من أن تكون الفلسفة قوة دافعة للتغيير والتطور، ستصبح مجرد تجميع للتحف الفكرية القديمة، يتم عرضها في المتاحف الأكاديمية دون أن يكون لها أي تأثير حقيقي على العالم.
هذا هو المصير الذي ينتظر الفلسفة إذا تخلت عن مهمّتها الأساس، أو هكذا أُفكّر.
