ناصر المنجي/ كاتب عُماني
كل الصباحات عندي تتشابه وإن تغيّرَ طعمها قليلاً ، صباح السابع من أكتوبر كان من الممكن أن يكون مثل أي صباحٍ آخر بحلوه ومُرِّه ، فتحتُ التلفاز على غير العادة ، يومياً أبدأ صباحي بالإنصات لزقزقة العصافير وسماع خرير ماء الفلج وأنا أتريّض بين حقول النخل ، لا أعرف أيُّ قدر جعلني أفتح التلفزة ذلك اليوم على غير العادة ، ولأن نكهة أحلام البارحة ما زالت معالمها باقية على وجهي وروحي لم أستوعب المشاهد على الشاشة ، ما يشبه الطائرات تحلّق في السماء ، إطلاق قذائف وصواريخ ورصاص ، بدايةَ ظننت أن ثمة هجوم إسرائيلي قد وقع لمدن غزة ، تسمّرتُ على الشاشة عندما عرفت أن ما أراه هو أول قصف وهجوم فلسطيني على اللقيطةَ أبنة اللقطاء وحفيدة الإمبريالية والإستعمار المُسمّاة بإسرائيل ، نسيتُ فنجان القهوة في يدي دون أن أشربها ، تذوقتها وأنا أنظر لوجوه أبناء غزة المبتسمة وإلى الأبطال المقاومين ، لم تكن ذلك اليوم مُرة منذ أن خلق الله القهوة ، كانت عَسلاً من الجنة .
وسائل التَواصل الاجتماعي مليئة بمشاهد المعجزة التي يقومُ بها أبناء غزة ، طال إنتظار هذا اليوم ما يُقارب الثمانية عقود من الزمن الذي تَجَرّع فيها أبناء غزة صنوف الظلم والعذاب والظلم ، يفُطِرون جُرحاً ويَتَغَدّون الألم ، عشاءهم الموت ، لم يتذوق شعب في العالم ما تذوّقه أبناء فلسطين من تشريدٍ ودمارٍ وقتل ، وعود السلام هي أكاذيب تنطلق من فوهة المدافع حاصدةً الأرواح في مجازرٍ عدة ، كل صهيوني يقول مثلما قال فرعون ( أنا ربكم الأعلى ) ، قالها المُقاوم الفلسطيني وأثبت مقولته للعالم أجمع : إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت ، الجيش الذي قيل أنه لا يقهر أصبح تحت حذاء الفلسطيني المُسلّح بالإرادة وعزيمة النصر ، ها هو الفلسطيني يُدافع عن وطنه ، ولكن الإسرائيلي سيدافع عن ماذا ، هل سيدافع عن أكبر أكذوبة قيلت عبر العصور وهي أن فلسطين أرض بلا شعب أعطيت لشعب بلا أرض ، أم يُدافع عن أسلافه من القَتَلةِ الذين سلبوا وطَناً جاعلين منه دمعةً حزينة ينظر إليه أبناء فلسطين بحسرةٍ وألم ، قالها السابع من أكتوبر : إسرائيل كذبة لم ولن يُصدّقها أحد حتى اليهود أنفسهم .
خرجتُ من المنزل ، كان منظر الأشجار مختلفاً عن كل المرات ، كانت مُبتسمة وكأنها تحتضنُ بعضها البعض فرحاً ، أبدأ بالسلام ويكون الرد بأفضل منه مصحوباً بجملة اللهم أنصر غزة .. اللهم نريد الصلاة في الأقصى المُبارك ، نسي الجميع خلافاتهم وتجمّعوا حول فلسطين ، سألني أحد الأصدقاء : هل سمعت بما حدث في إسرائيل ، قلتُ له “سمعت بهذا منذ زمنٍ بعيد وليس اليوم ولكن ليس بأذني .. سمعته بقلبي يا صديقي ، لأن فلسطين ليست حكاية ، فلسطين وطن ، إنها وطن ، إسرائيل هي الحكاية ، حكايةٌ مُلفّقة .
كالكثيرين ، نسيتُ الغداء وما حولي ، أُقّلب القنوات الإخبارية المخُتلفة ، أتساءل عن موقف القادة والساسة العرب مما يحدث ومما سيحدُث ، قلتُ لنفسي لا تسأل هذا السؤال ، هم في الأساس غير قادرين على فعل شيء ومنذ أمدٍ بعيد ، بإستطاعتهم فعلَ شيء أمام الميكروفونات والخُطب الجوفاء ، فلسطين للبعض منهم أمواتً كانوا أم أحياء هي علكة يمضغونها في الإجتماعات والمؤتمرات ، فلا تشغل بالك بهم ، ربما لهم القدرة في المحافظةِ على كراسيهم وبمساعدة قوىً أخرى وغير ذلك لا شيء ، لم يحدث لي أن جلست أمام التلفاز كل هذه الساعات ، أستمع إلى زغاريد نساء غزة وهن يزغرن بأرواحهن وليس بألسنتهن ، بكيتُ وسالت دموعي ، سألتُ الله أن تزداد هذه الدموع .
” الله على هوا بلادي .. هذا هو الهوا الحقيقي ، أول مرة أحس أني بتنفس ، شو ما أجملك ، ما أحلاك ” ، جملة قالها فلسطيني وهو يرى قرية فلسطينية عَبَرَ إليها بعد هجوم السابع من أكتوبر ، لأول مرة يرى وطنه .. يرى قلبه .. يرى روحه بعد أن هُجِّر منها ، فلسطين بالنسبة إليه هي الروح ، بُعدهُ عنها هو إنسلاخ الروح عن الجسد ، شخصٌ آخر يظهر على الشاشة ، لم يتكلّم ، عيونه هي اللسان والكلمات كانت الدموع المتساقطة وهو يرى فلسطين الأرض الحقيقية وليست على الشاشة .
تاريخ اليهود ( إن كان لهم تاريخ ) معروف بقتل الأنبياء والرسل ، قتل الأطفال والنساء والعجَزَةِ ليس إلا هواية مُحبّبَة في وقت الفراغ ، كراهية الفلسطيني والعربي هي هدهدة الأم لطفلها قبل أن ينام بدليل جرائم القتل والتعذيب تجاه الفلسطينيين ومواصلة سياسة الأرض المحروقة بعد حرقها ، ما الذي سيحدث ، أبناء غزة لن يواجهون الصهيونية الإسرائيلية بل الصهيونية العالمية وإن كانت بمُسمياتٍ أخرى .
بعدها بأيام ظهر شيطان بني صهيون وهو مخمور بالهزيمة ، يترنح ذات اليمين والشمال وسقط كالعادة في حُضن الغرب ، أتى بلينكن إلى تل أبيب ، ما أن وصل إلى المطار حتى صرّحَ قائلاً : أتيتكم بصفتي يهودياً ، هو لم يكن في الأساس يوجه كلامه للإسرائيليين بقدر ما يوجهه للعرب ، حكومة أميركا ليست مع إسرائيل قالباً وقلبً فقط ، بل ومقلوب عليه ، كان برفقته وإن وصلن متأخراً بعض الشيء الصديقات المشتركات بين إسرائيل وأميركا ، حاملات طائرات بها صواريخ وقنابل لم تُستعمل قط ولم تُجرّب حتى على الفئران ، تحوّل نهار أبناء غزة الى ليل ، تمّ قتل من تم قتله قبل سنين ، تم اغتيال القبر ، لم تُمارس سياسة الأرض المحروقة .. مورست سياسة السماء المحروقة . ***
رغم آلاف الشهداء الذين أغتالتهم آلة الغدر الإسرائيلية ، ووسط أنين الجرحي .. مع بكاء الأرامل بنات وأمهات الشهداء ، هذا ما سأرويه لأحفادي عن السابع من أكتوبر المجيد ، هذه هي النقاط التي لا بُد أن أضعها على ما تبقى من حروف ، سأقول لهم أن العرب يقولون منذ القدم الحرب كرٌّ وفر ، لكنها بالنسبة لفلسطين هي كرّ ولا ينبغي أن يكون فيها فر ، الفرار هو للجبناء والمتخاذلين ، فلسطين لن تُحرّرها قمم عش الدبابير الميتة المُسماة بجامعة الدول العربية ، السلاح ولا شيء غير السلاح ما يجلب السلام ، وما أُخذَ بالقوة لا يسترد إلا بقوة أكبر ، سأقول لهم أن اليهود منذ أن وُجدو لا عهد ولا مواثيق لهم ، ولم تكن لهم دولة إلا في الأحلام ، مملكة داؤود مجرد قرية أو مدينة صغيرة ، إسرائيل دولة أسسها الإستعمار ، أرضعتها الإمبريالية دماء الفلسطينيين ، وإن حل الدولتين وهمٌ كبير لن ترضاه إسرائيل مُطلقاً ، الحل هو حل الدولة الواحدة .. الوطن الواحد ، فلسطين فقط ، للفلسطينيين وحدهم ، سأخبرهم كيف أن أبناء غزة عانوا في عامين من العذاب والدمار ما لم يعانيه سكان الأرض لكنه أثبت أن البطولة تسري في دمه ، ودقّات قلوبهم تبض بالنصر ، كيف أن السابع من أكتوبر أسقط ورقة التوت عن كثير من الأنظمة والحكومات لتظهر حقيقتها .
اللهم نصرك لإخواننا في فلسطين ، اللهم عليك بالصهاينة ومن والاهم ، يا رب العالمين .