آمنة بنت محمد البلوشي
ayaamq222@gmail.com
تبدّل الجو في البلاد، كأن الشتاء مدَّ أنامله الباردة، يلامس الأرواح بخفّة ريشة نديّة. وهناك، عند أحد البيوت الطينية العتيقة، وقفت شجرة الشِّريش الكويتية شامخة، كأنها شاهد على ما مضى من حياةٍ وحكايات، تُصغي في صمت إلى الأصوات المتسرّبة من الداخل.
في ركن من أركان الحارة القديمة، جلست النسوة المعصرات في عقر الدار، التففن حول بعضهنّ كما يلتف العقد حول جيدٍ واحد، وكل واحدة منهن تحمل سؤالًا أو خاطرًا تريد أن تُلقيه في الهواء. فحديثهنّ، وإن بدا عابرًا، هو نسيج الحارة وروحها.
وبين رشفة قهوةٍ وهمسةٍ خافتة، علت أصواتهنّ بأبياتٍ للشاعر بدر عبدالمحسن، كأنهنّ يعلّقن همومهن على مسمارٍ في جدار الزمن:
أعلّق الدنيا على مسمار
مدقوقٍ فيه جدار
تسكن في ساسه ريح
من له سنينٍ يطيح
ولأجل الليالي قصار
ما أمداه… ما أمداه…
ارتجفت الجدران الطينية وكأنها تحفظ لحنًا قديمًا، فيما هزّت الشجرة أغصانها كأنها تُصفّق لهذه الأرواح التي تضحك رغم ثِقل الحياة.
قالت إحداهن، وقد مالت بجسدها قليلًا للأمام:
“سمعتنّ عن حوادث الجبال؟ طرق بُنيت بمعايير عالمية، لكن بعض الناس يستعملون سياراتهم استعمالًا خاطئًا؛ يحملونفيها أكثر من عشرة أشخاص، حتى إذا تعطّلت بهم في منتصف الطريق، بدؤوا يتذمّرون من الحكومة! والحكومة – والله – ماقصّرت: كل يوم إعلانات ولوحات إرشادية!”
ضحكت النسوة طويلًا، حتى بدا الفنجان يرقص من الاهتزاز. ثم أضافت أخرى بلهجة ساخرة:
“هناك من يمشي في الطرقات مختالًا فخورًا، وهناك من يسرع مع نزول الراتب كأن الراتب قد هرب منه إلى كوكب الزهرة!”
فتعالت الضحكات، لكن ثالثةً قطعت الجو قائلة:
“من وجهة نظري… لستُ محللةً اجتماعية، غير أنّ
هذه الحوادث تتوالى كفصول لا تنقطع، أشبه بحالة جنون . هذا يلهو بسيارته، وذاك يسرع بتهوّر، وأسرٌ بأكملها تملك عشر سيارات فتغرق الطرقات في زحامها! والنتيجة: أرواح تُزهق، وأحلام تتبعثر.”
ساد صمت قصير، لتكسره إحداهن وهي تستعيد كلمات السلطان قابوس – طيّب الله ثراه – بوقار:
“ما يحدث على طرقاتنا مسألة يجب أن تهم الجميع… الحياة والموت بيد الله، ولكن الله أمرنا ألا نلقي بأيدينا إلى التهلكة.”
هزّت النسوة رؤوسهن موافقة، ثم عادت روح الدعابة لتطلّ من جديد، إذ قالت إحداهن:
“يعني لو أنّ كل واحدٍ منّا ربط حزام الأمان، لانتهت الزحام، وتوقّف سباق كوكب الزهرة!”
قهقه الجمع، بينما هبّت من بعيد كلمات ابن القيّم، كأنها صدى خفي:
“مُفسِدات القلب خمسة: كثرة الخلطة، الإسراف في الطعام، كثرة النوم، التعلّق بغير الله، والتمنّي.”
ثم جاء صوت مصطفى الرافعي، جادًا رزينًا:
“إنّ الشقاء في الحياة يأتي من التعلّق بالدنيا والفضول… والسموّ من تطهير النفس من هذه العلائق، والسير نحو الكمال الروحي.”
وهنا قالت إحدى النسوة بوجه عابس وقد وضعت يدها على صدرها:
“المشكلة لم تَعُد في الطرق وحدها، بل حتى في المواقع السياحية! ترى الواحد يصعد فوق الكثبان الرملية، يتحدّى الحياةباسم الخبرة، وما أدراك ما الخبرة؟! كم من شاب أنهى حياته بسبب حماسة زائدة، وكم من آخر عاش شهورًا في غيبوبة،وأهله يتمنّون أن يفتح عينيه ولو لحظة!”
سكتت النسوة، وانحنى الصمت عليهنّ كما تنحني السماء على مدينةٍ نائمة. لكنّ إحداهن، لكسر ثِقل اللحظة، تمتمت بصوت خافت مقطعًا للشاعر أمل دنقل:
“كان قلبي الذي نَسجتْه الجروحْ…
كان قلبي الذي لَعنتْه الشُروحْ…”
تسلّلت الكلمات إلى أجواء الحارة، امتزجت بصوت الريح، وبحفيف أغصان شجرة الشريش، وكأنها نشيد عن الحياة والموت معًا.
ثمّ، كأنما لتستعيدن خفة المجلس، رفعت إحداهن فنجان قهوتها وهزّته قليلًا، وقالت بابتسامة ساخرة:
“لا تزيديني .
فانفجر المجلس ضحكًا، وتحوّلت الحكايات كلها – من الزحام، والحوادث، والكثبان الرملية، والشعر، والحكم – إلى مشهدٍ واحد: مسرحيةٌ تُضحك وتُبكي في آنٍ واحد، بطلها الإنسان الذي يركض في الطرقات، ناسياً أن الحياة أقصر من أن تُهدَر في رعونة.