عماد بن محسن الشنفري
منذ القدم، كان التكافل والتعاون الاقتصادي جزءاً أصيلاً من حياة المجتمعات، إذ لا تنهض المدن ولا تُحفظ ذاكرة التراث إلا بجهود جماعية تتقاسم فيها الأيدي الأعباء والمصالح. واليوم تمثل الشركات الأهلية الامتداد الطبيعي لهذه الروح، فهي مبادرات يشارك فيها الناس بأموالهم وخبراتهم لتطوير أوطانهم، وصون إرثهم، وابتكار حلول اقتصادية تعزز حاضرهم ومستقبل أبنائهم.
لذا فأن الشركات الأهلية بطبيعتها ليست ملكاً خاصاً لأفراد، بل هي كيانات مجتمعية تقوم على مبدأ المساهمة والشفافية، غايتها خدمة المجتمع لا احتكاره. لذلك، نجاحها يتوقف على المصداقية وروح المشاركة، لا على المصالح الضيقة أو النزاعات الداخلية.
ومن التجارب الناجحة في هذا المجال شركة بوارق نزوى في حارة العقر؛ إذ انطلقت برؤية واضحة لتحويل البيوت القديمة إلى نُزل ومراكز ثقافية نابضة بالحياة، فنجحت لأنها قامت على أسس من الثقة والعزيمة والإيمان بقدرة التراث على أن يكون مورداً للتنمية لا عبئاً على الحاضر. هذه التجربة باتت نموذجاً يُحتذى، وأثبتت أن الاستثمار في التراث يمكن أن يدر عائداً اقتصادياً ويحافظ على الهوية في آن واحد
إن تجربة نزوى يمكن أن تتكرر في مناطق أخرى، وبالتحديد في محافظة ظفار مثل:
مرباط: بما تملكه من بيوت وأسواق تاريخية وميناء قديم، يمكن أن تتحول إلى مقصد سياحي نابض إذا تبنّت شركة أهلية مشاريع للترميم والاستثمار كذلك
صلالة قلب محافظة ظفار، تزخر بأحياء وأسواق قديمة يمكن إعادة إحيائها لتواكب الحراك السياحي المتنامي ولا ننسي منطقة الحافة بما لها من قيمة تاريخية وتجارية، يمكن أن تُعاد صياغتها لتصبح وجهة سياحية وأسواقاً تراثية تضاهي أعرق المواقع في المنطقة.
هذه النماذج ليست بعيدة المنال متى ما توافرت الشفافية وروح الشراكة بين المجتمع والجهات الداعمة.
ولا شك أن مشاريع إحياء المنازل والأسواق القديمة مكلفة من الناحية المالية، وهو ما قد يشكل عائقاً أمام المضي فيها بوتيرة سريعة. غير أن الحل يكمن في التنفيذ المرحلي؛ إذ يمكن البدء بترميم مجموعة محدودة من المباني وتشغيلها فوراً لتوليد عوائد، تُستثمر بدورها في تمويل المرحلة التالية، وهكذا دواليك حتى يكتمل المشروع. هذه الاستراتيجية تضمن استدامة المشروع وتقلل من الضغط المالي على المساهمين.
كما أن مساهمة الدولة لها دور جوهري في إنجاح هذه المشاريع، سواء عبر تسهيل الإجراءات الإدارية، أو تقديم التسهيلات اللوجستية، أو دعم البنية الأساسية كالكهرباء والطرق والخدمات. هذا النوع من الشراكة بين المجتمع والدولة يشكل البيئة المثالية لنجاح الشركات الأهلية وتحقيق أهدافها
ورغم هذه الفرص الواعدة، تواجه بعض الشركات الأهلية تحديات من الداخل، أخطرها حين تتعامل بعض النفوس مع الشركة وكأنها ملكية خاصة، فتقصي الآخرين وتغلب المصلحة الفردية على المصلحة العامة. هذا السلوك يشبه “السوسة” التي تنخر الجدار بصمت حتى تسقطه، ولذا فإن مقاومته تبدأ بزرع قيم النزاهة والمحاسبة والالتزام بالأنظمة.
إن الأحلام الكبيرة لا يُختزل نجاحها في أشخاص، بل تُبنى على مؤسسات راسخة يقودها المخلصون بروح جماعية. والشركات الأهلية هي في جوهرها أمانة مشتركة، فإذا اجتمع الناس على المصداقية والتعاون، وتحركوا وفق خطط مالية مدروسة، ووجدوا من الدولة سنداً لوجستياً، فإنها ستتحول إلى قوة فاعلة تحفظ التراث، وتبني التنمية، وتمنح الأجيال القادمة ما يفخرون به من منجزات.
