لماذا تفشل الأمم؟ المؤسسات هي مفتاح الثروة
بين مؤسسات تنمّي الإنسان.. وأخرى تستنزفه
حين نحاول تفسير أسباب نجاح بعض الدول وفشل أخرى، تتبادر إلى الأذهان تساؤلات محورية: لماذا تحقّق بعض الأمم مستويات عالية من الازدهار، بينما ترزح أخرى تحت الفقر والاضطراب رغم تشابه الموارد أو الموقع الجغرافي؟ الجواب لا يكمن في النفط ولا في الأنهار ولا في وفرة الذهب، بل في المؤسسات.
يشير الكتاب الشهير “لماذا تفشل الأمم؟” إلى أن الفارق الحاسم بين الدول الناجحة والفاشلة هو شكل مؤسساتها. فالمؤسسات الشاملة، التي تضمن العدالة والمساءلة وتكافؤ الفرص، تنمّي الإنسان وتحفّز الإبداع والاستثمار، بينما تؤدي المؤسسات الإقصائية، التي تكرّس السلطة والموارد في يد قلة، إلى الاستنزاف والركود.
فحين تُبنى المؤسسات على قيم المشاركة والشفافية، تنفتح الأبواب أمام المبادرة الفردية والابتكار. أما حين تصبح المؤسسات أداة للنهب والاستئثار، فإنها تتحوّل إلى عبء على المجتمع، تعيق التنمية وتزرع الفساد وتغلق آفاق الأمل أمام الأجيال.
الأمم لا تنهض فقط بثرواتها الطبيعية، بل بكيفية إدارتها عبر مؤسسات قادرة على تحويل الموارد إلى فرص، والمعاناة إلى تقدم. فاليابان وكوريا الجنوبية مثلًا، ورغم محدودية الموارد، حققتا قفزات تنموية هائلة لأنهما أسّستا نظامًا مؤسسيًا يعزّز التعليم والبحث والتكنولوجيا. بالمقابل، هناك دول غنية بالموارد كبعض دول أفريقيا وأمريكا اللاتينية، لكنها تعاني من الفقر بسبب مؤسسات استنزافية تُبقي شعوبها رهينة التبعية والصراعات.
لذا فإن الإصلاح الحقيقي لا يبدأ من ضخ الأموال أو الشروع في مشاريع عملاقة فحسب، بل من بناء مؤسسات تحترم الإنسان وتمنحه فرصة المساهمة في صنع مستقبله. فمستقبل الأمم يُصنع في أروقة القضاء العادل، ومجالس الإدارة الشفافة، والمدارس التي تنمّي التفكير، وليس فقط في المناجم أو حقول النفط.
ما المقصود بـ”المؤسسات”؟
حين نسمع كلمة “المؤسسات”، يتبادر إلى الأذهان أنها مجرد مبانٍ حكومية أو مكاتب رسمية.
لكن في الحقيقة، المؤسسات هي القواعد والأنظمة التي تنظّم حياة الناس، وتشكّل الأساس الذي يُبنى عليه الاقتصاد، والعدالة، والتنمية. ليست المؤسسات مجرد هياكل، بل منظومات حيّة تُحدد من يملك الثروة، ومن يدير السلطة، ومن يُحاسب على القرارات. فمن مؤسسة الضرائب التي تعكس فلسفة العدالة، إلى القضاء الذي يُفترض أن يكون حصنًا للحقوق، إلى الإعلام والتعليم والأسواق… جميعها تحدد مصير الأمة.
الفرق بين النجاح والفشل… يبدأ من هنا
حين تكون المؤسسات شاملة، شفافة، وعادلة، فإنها تُطلق طاقات المجتمع، وتفتح الأبواب أمام الإبداع، والفرص، والتكافؤ.
أما حين تُدار بخلفيات إقصائية أو مصالح ضيقة، فإنها تتحول إلى أدوات للفساد والاستنزاف، وتُغلق معها نوافذ التقدّم.
شواهد من العالم
التاريخ مليء بأمثلة لدول لا تملك ثروات طبيعية، لكنها تقدمت بفضل مؤسسات قوية وعادلة.
وفي المقابل، هناك دول غنية بالنفط والمعادن، لكنها غارقة في الأزمات… لأن مؤسساتها تُبدّد الثروات بدلاً من أن تستثمرها.
مؤسسات العالم الإسلامي… أين الخلل؟
معظم دول العالم الإسلامي اليوم تعاني من:
انعدام الشفافية: في المالية العامة، المشاريع، التوظيف.
ضعف سيادة القانون: القضاء مسيّس، و”الكبير لا يُحاسب”.
تضخم البيروقراطية دون فاعلية.
تهميش المواطن في القرار: لا تأثير حقيقي للانتخابات أو المشاركة المدنية.
اقتصاد تابع للسلطة السياسية، لا يدار بالكفاءة بل بالولاء.
والنتيجة؟ حتى عندما تتوفر الموارد، تُهدر في مشاريع فاشلة، أو تُنهب، أو تُدار دون كفاءة.
العلاقة مع الإسلام
الإسلام، في جوهره، يدعو إلى بناء مؤسسات عادلة ومسؤولة:
المساءلة: “كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤول عن رعيَّته” (متفق عليه).
العدل: “إن الله يأمر بالعدل والإحسان…” (النحل: 90).
الشورى: “وأمرهم شورى بينهم” (الشورى: 38).
تحريم أكل المال العام: “ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل…” (البقرة: 188).
لكن غياب المؤسسات التي تُجسد هذه القيم، جعلها شعارات بلا تطبيق، وأدى إلى انهيار الثقة بين الحاكم والمحكوم.
كيف نتحول إلى مؤسسات شاملة؟
ضمان استقلال القضاء، ومساواة الجميع أمام القانون.
حرية الإعلام والمجتمع المدني، لتأدية دور الرقابة.
شفافية في إدارة المال العام، عبر نشر الموازنات والمشاريع.
نظام تعليمي ينتج مواطنًا ناقدًا ومبدعًا، لا تابعًا.
ربط المسؤولية بالمحاسبة، وإلغاء الامتيازات غير المشروعة.
الخاتمة:
الثروة لا تُنتجها الموارد وحدها، بل مؤسسات تُمكّن الإنسان، وتحمي الحقوق، وتفتح الباب للابتكار.
ودون ذلك، سنبقى ندور في حلقة مفرغة من الهدر والفساد، مهما امتلكنا من بترول أو معادن.
الخلاصة: ليست المشاريع ما يصنع النهضة… بل المؤسسات النهضة الحقيقية لا تبدأ من ناطحات السحاب أو الموانئ العملاقة، بل من مؤسسات تحترم الإنسان، وتمنحه الفرصة ليكون شريكًا لا تابعًا. فبين مؤسسة تُنمّي الإنسان… وأخرى تستنزفه، يُكتب مستقبل الشعوب.
في المقال القادم، سنناقش مفهوم “رأس المال الاجتماعي”، ولماذا فقد المسلمون القدرة على التعاون وبناء الثقة فيما بينهم.