يعقوب الخنبشي/ كاتب وأديب
رأيت أبي يحمل “الريدو” المذياع وهو يقصر الخطوة ويطولها بين الفينة والأخرى ذهابا وإيابا وكانه يقيس مساحة ” الصفة” الخارجية الواقعة بين غرف بيتنا القديم.. استشعرت من خطواته بأن هناك خطرا جللا يحدث مما دفع أبي أن يخرج بمذياعه هذه المرة من الحجرة الضيقة التي يخبي فيها ذلك المذياع عن الغرباء حين كان محرما شرعا وسلطةً من الاستماع إليه..
اقتربت من أبي وسألته – باه مو مستوي؟
أجابني بصوت جهوري يشاغبه الحزن والقلق: جمال عبدالناصر مات.. اطلقت سؤال آخر مستغربا وكأن رصاصة خرجة مني لتصيب أبي:
من ذا جمال عبد الناصر؟!
أجابني بعينين شاخصتين وهو يرفع يده للأعلى وصوت مرتفع.. زعيم الأمة.. قلت بكل براءة وبلاهة.. مو يعني ” زعيم الأمة” وبطبيعة الموقف لم أتلقى أية إجابة ليدر ابي ظهره لي ويدخل غرفته الخاصة ويخرج بعدها وقد توشح خنجره وعصاه وغادر المنزل مسرعا.
بقي هذا الحدث وتبعاته في صميم الذاكرة لتتضح لي الرؤية عبر مراحل العمر عن تلك المرحلة وما شكلته وبما يعرف اليوم “بالخليج العربي” وأن هناك رجلاً أثار في صدور أهله من الجدل والافتتان والنقمة مثلما أثارها جمال عبد الناصر فيهم.
نعم.. أنه ذلك الصوت الخارج من القاهرة ليزلزل الصحراء الخليجية بقراها وحاراتها، فيعلو في الأسماع كالرعد المزمجر، ويستقبل في القلوب إمّا كبشرى من السماء أو كوعيد من الجحيم. لقد كان عبد الناصر في المخيال الخليجي أشبه بمرآة مزدوجة تشكلت بثلاث صور: وجه يُشرق بالأمل والثورة والكرامة، ووجه آخر يكسوه ظل الاستبداد والتهديد والفوضى.
ووجه بالكفر والإلحاد والعلمانية،
فمنذ أن أطلقت إذاعة “صوت العرب” في الخمسينيات، تسلل صوته عبر الأثير إلى بيوت الخليج وأسواقه وهمس مجالسه، حتى صار نديم الليالي الحارة وكنسمة بحرية تحمل معها وعد التحرر من الاستعمار البريطاني، وبشارة الوحدة العربية الكبرى. كان الشباب في عمان والكويت والبحرين وقطر ، يلتقطون عباراته كما يلتقط العطاش قطرات المطر، فيتغذون على حلم العدالة الاجتماعية، ويُسقون من نهر الكرامة الوطنية الذي كان خطابه يفيض به. بدا عبد الناصر لهم فارساً على صهوة الزمان، يواجه الاستعمار تارة، ويجابه الرجعية تارة أخرى، فيغدو أيقونة الحلم العربي الكبير.
لكن، أيقونة الحلم هذه كانت في أعين الملوك والأمراء خليطاً من هاجس وتهديد. فقد بدا عبد الناصر في نظرهم نفيراً يهدد شرعية العروش القائمة، ويوقظ الجماهير النائمة على لحن الثورة. وحين أرسل جيشه إلى اليمن عام 1962 ليؤازر الجمهوريين ضد الملكيين، ارتجت القصور الخليجية راجفة بما سيحدث ان تمكن؛ إذ بات الجيش المصري على مقربةٍ من حدود الجزيرة، فغدا الخوف من “تمصير الخليج” حديث القصور والمجالس، وتحول عبد الناصر إلى خصم سياسي لا يُستهان به.
وفوق ذلك، زاد خصومه في الخليج ضغينة حين أوغل في حربه مع الإخوان المسلمين، فامتلأت السجون المصرية بهم، وتوج الصراع بإعدام سيد قطب عام 1966. ولأن سلفية الخليج يومها كانت تنهل كثيرًا من معين الخطاب الديني الإخواني ، فقد ارتسمت صورة عبد الناصر في بعض المخيال الشعبي كزعيم علمانيٍ قاسٍ، يعادي التيار الإسلامي ويخاصم الشريعة الإسلامية . وهكذا غدا الرجل عند جزء من الخليجيين فرعونا جديدا يتزيا بلباس القومية.
ثم جاءت النكسة في يونيو 1967 كالمقصلة، ليس لجيشه فحسب بل لصورته في المخيال الخليجي. فمن كانوا يسبحون بحمده ذرفوا دموع الخيبة على آمالهم التحررية، ومن كانوا يحذرون من مغامراته وجدوا في الهزيمة دليلاً على أن خطابه بأنه كان وهماً زائفاً. ومع ذلك لم تندثر صورته، بل ازدادت تعقيداً: صار عبد الناصر “البطل التراجيدي، فارسا صعد إلى السماء بخطابه ثم سقط إلى الأرض بهزيمته، لكن بريقه لم يخمد.
فهو عند بعض الجماهير صوت الكرامة الضائعة، وعند الحكام طيف الخطر الدائم، وعند المتدينين رمز المروق عن الطريق. صورة ملتبسة، نصفها حلم ونصفها كابوس. وربما هذا سر بقائه في الذاكرة الخليجية حيا: لأنه لم يكن رجلاً فحسب، بل كان مرآةً تعكس صراع المنطقة بين التغيير والحفاظ، بين الثورة والسكينة، بين الأمل والخذلان.
إن عبد الناصر في المخيال الخليجي ليس تاريخا مضى، بل رمزا يتردد صداه حتى اليوم؛ ترفعه الجماهير في لحظة غليان كشعار للوحدة، وتستحضره الأنظمة في لحظة الحذر كتحذير من الفوضى والانفلات الأمني.
ويستحضره الخطاب الديني رمزا للفسوق والطغيان.. إنه جرح مفتوح وحلم مكسور، لكنه أيضا اسم لا يُمحى من ذاكرتهم.