د. بدر بن أحمد البلوشي
في دنيا البشر، هناك أمران عجيبان يكبران على غير عادة الأشياء.. النجاح والسعادة.. فهما حين يبقيان حبيسين في الصدر يبهتان، وإذا أُطلقا في فضاء الآخرين تضاعفا، كأنهما نار تزداد توهجا كلما اقتربت منها القلوب.
النجاح ليس حصادا يُختزن في صوامع الأنا، بل هو بذرة كونية لا تُثمر إلا إذا وُزعت على القلوب، كما يتوزع الرزق على الطير في الصباح.. ومن جمع النجاح لنفسه وحده، عاش فقرا داخليا لا تسده كنوز الأرض.
أما السعادة فهي ماء صاف، لا يُشرب في كأس ضيقة.. إنها نهر كلما جرى في أرواح الآخرين رق صوته وازدادت عذوبته.. فمن أرادها حبيسة في صدره ذبلت، ومن أطلقها في صدور الخلق أزهرت حتى على حجارة القلوب.
قال سيدنا علي كرم الله وجهه: “من سل سيف البغي قُتل به”. والبغي هنا ليس سلب الأرواح فحسب، بل سلب المعاني أيضا؛ فمن بخل بنجاحه أو ضن بسعادته، فقد سل سيف الأنانية، وسيُقتل به من حيث لا يشعر، إذ تحاصره الوحشة وتفترسه الوحدة.
النجاح حين يُقسم يصبح مثل قنديل يوقد قناديل أخرى، لا ينطفئ، بل يتضاعف نوره.. والسعادة حين تُشارك تتحول إلى لغة لا تحتاج ترجمانا؛ تفهمها الأرواح قبل الألسن، وتلتقطها القلوب قبل الكلمات.
أيها السائر في دروب العمر، اعلم أن الله لم يخلقك لتكون جزيرة معزولة، بل لتكون جسرا من نور.. وما الجسر إلا معنى المشاركة، وما المشاركة إلا تجل من تجليات الرحمة.
إن أعظم سر في الوجود أن ترى نجاحك يتنفس في وجوه الآخرين، وأن تسمع سعادتك تنبض في قلوب من حولك.. عندها فقط تدرك أنك لم تعش عمرك مرة واحدة، بل مرات بقدر من شاركتهم.
ولذلك، لم تكن الأمجاد يوما ملكا لفرد، بل كانت جماع أيد امتدت وأرواح تقاسمت الأمل.. أما من ظن أن العظمة تُبنى بالأنا، فقد أخطأ السبيل؛ لأن “أنا” لا تُنبت إلا صحراء، بينما “نحن” تنبت بساتين لا تنتهي.
النجاح الذي لا يُقسم مثل خبز لا يُكسر، يموت قبل أن يُؤكل.. والسعادة التي لا تُشارك مثل زهرة لا يُشم عبيرها، تذبل قبل أن تُرى.. وهنا يكمن الفرق بين حياة تُستهلك وحياة تُخلد.
فلتكن روحك خزانة للنجاح، لا لتكديسه، بل لتوزيعه؛ وحديقتك للسعادة، لا لتسويرها، بل لبث عبيرها. واعلم أن كل عطية تُنفقها تنمو، وكل فرح تُشرك فيه الآخرين يعود إليك أضعافا مضاعفة.
ما أعظم أن تتحول مسيرة الفرد إلى جسر يعبر عليه الآخرون، وما أبهى أن تتحول سعادته إلى فرح جماعي يبدد غيوم الكآبة، ويصنع من لحظات العمر فسيفساء ملونة بالبهجة.
ومن وعي هذا السر أدرك أن الله لم يخلقنا فرادى معزولين، بل أوكل إلينا مهمة العمران، ولا يُعمر الوجود إلا بمشاركة الأفراح وتوزيع الثمار.. لذلك، كل نجاح لا يضيء طريق الآخرين ناقص، وكل سعادة لا تلامس قلبا آخر باهتة.
إن أعظم القصص الإنسانية لم تُكتب في عزلة، بل كتبتها جماعات تقاسمت النصر والخسارة، وبنت أمجادها على العطاء المتبادل.. وحدها الأنا تنسف الأثر، أما “نحن” فهي التي تُطيل عمر الإنجازات.
العظمة الحقيقية ليست أن تملك المجد، بل أن تُشرك الآخرين في امتلاكه.. والعظمة الأبهى ليست أن تنعم بالسرور، بل أن تزرع السعادة في قلوب من حولك حتى ولو بكلمة، أو ابتسامة، أو لمسة ود.
وفي نهاية المطاف، يتجلى جوهر الحكمة في أن النجاح الذي يُقسم لا يُنسى، والسعادة التي تُشارك لا تفنى.. إنهما هديتان سماويتان يكبران حين نهبهما للآخرين، ويذويان حين نحبسهما لأنفسنا.. فمن أراد أن يعيش عمرين في عمر واحد، فليتقاسم نجاحه، ومن أراد أن يُسعد ألف قلب وهو قلب واحد، فليشارك سعادته.