د. سالم الوهيبي
في الوقت الذي يعاني فيه كثير من الدول الإسلامية من الفقر والبطالة وغياب الإنتاج، نجد أن النصوص الإسلامية تزخر بدعوات صريحة نحو العمل، والإتقان، والعدل، باعتبارها مفاتيح أساسية لنهضة الإنسان وإعمار الأرض.
فكيف غابت هذه الثلاثية عن حياتنا الاقتصادية؟ ولماذا استبدلت بثقافة ريعية استهلاكية قاتلة؟
العمل عبادة لا خيار والإتقان مفتاح الجودة والتنافسية
سنفصل في هذا المقال نتائج غياب هذه الثلاثية عن حياتنا الاقتصادية بشكل خاص ودور هذا الغياب في تكريس الثقافة الريعية الاستهلاكية والعجز والتواكل. فقد وضع الإسلام العمل المنتج في مصاف العبادات، بل وفضله أحيانًا على التفرغ للعبادة، إذا تعارضت مع المسؤولية، فقد قال تعالى: “هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ” (الملك: 15)، و قال النبي ﷺ: “ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده” . ففي هذه الرؤية، العمل ليس عبئًا ولا إذلالًا، بل عبادة ومسؤولية، لكن في مجتمعاتنا، تحول العمل غالبًا إلى “وسيلة بقاء” لا “رسالة بناء”، مما أُفقده الروح والدافعية والإبداع. ففي مقابل ثقافة “التمشية” و”التساهل في الأداء” المنتشرة في قطاعات كثيرة، يُصر الإسلام على معيار عالٍمي بني على قوله ﷺ: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يُتقنه” (رواه الطبراني، وحسنه الألباني). فالإتقان ليس ترفًا، بل شرطا للنهوض الصناعي والزراعي والخدمي. وغياب هذه القيمة يؤدي إلى منتجات رديئة، وخدمات غير فعالة، وفساد في الإنشاءات، وهدر للموارد. في المقابل، مجتمعات مثل اليابان وألمانيا جعلت من “الإتقان” جزءًا من هوية العامل، فنهضت رغم قلة الموارد الطبيعية.
العدل أساس الاقتصاد المستدام
لا يمكن للاقتصاد أن ينمو في ظل الظلم، والاحتكار، والفساد، وغياب تكافؤ الفرص.
لذا، أمر الإسلام بالعدل في كل شيء، فقد قال تعالى”إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ” (النحل: 90)، وقال ﷺ: “كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته” (متفق عليه). وفي السياق الاقتصادي، يتجلى العدل في:
• منع الاحتكار.
• فرض الزكاة لتوزيع الثروة.
• محاسبة من يعتدي على المال العام.
• ضمان الشفافية والرقابة.
فالعدل هو الركيزة التي يقوم عليها الاقتصاد المستدام، إذ يضمن توزيع الموارد والفرص بشكل منصف بين جميع أفراد المجتمع. وعندما يسود العدل، تتحقق بيئة تنافسية شفافة تشجع الابتكار والإنتاجية. كما يؤدي إلى تعزيز الثقة بين الأفراد والمؤسسات، ما يجذب الاستثمارات ويعزز الاستقرار الاقتصادي. فغياب العدل يولد الاحتكار والفقر، ويقوّض فرص النمو المتوازن. لذلك، فإن تحقيق العدالة ليس خيارًا أخلاقيًا فحسب، بل ضرورة استراتيجية لضمان اقتصاد مزدهر ومستدام.
■ أين الخلل؟
رغم وضوح القيم التي أرسى الإسلام دعائمها في منظومته الاقتصادية، فإنها لم تتحول في معظم الدول الإسلامية إلى نظام مؤسسي راسخ. فالإرادة السياسية غالبًا ما تكتفي برفع شعارات العمل والإتقان والعدل، دون أن تصوغها في قوانين ملزمة وآليات تطبيق صارمة، فيما تتهاوى المؤسسات الرقابية والقضائية أمام موجات الفساد والمحسوبية التي تنخر جسد التنمية. وتتقدم المصالح الفردية أو الفئوية على المصلحة العامة، في ظل غياب الشفافية في إدارة الموارد والثروات، فتتآكل جسور الثقة بين المواطن والدولة. أما التعليم، فقد عجز في كثير من الأحيان عن غرس ثقافة العمل الجاد والإتقان باعتبارهما قيمة دينية واقتصادية، بينما استسهلت السياسات الاعتماد على الريع أو الموارد الطبيعية بدل بناء اقتصاد إنتاجي متنوع. ولم يُفعّل فقه المعاملات المعاصر ليواجه تحديات العصر ويحافظ في الوقت نفسه على روح العدالة التي جاء بها الإسلام، كما غاب التخطيط الاستراتيجي البعيد المدى لتحل مكانه ردود أفعال قصيرة النظر أمام الأزمات. وزاد الطين بلة ضعف التكامل الاقتصادي بين الدول الإسلامية، فتضاءلت فرص النمو المشترك، وتفشت ثقافة الاستهلاك والترف على حساب الإنتاج والاستثمار، فاختلت بذلك معادلة الثروة في غياب العمل والإتقان والعدل.
■ الخاتمة:
الإسلام لم يأتِ فقط ليأمر بالصلاة، بل جاء ليُقيم عدلًا، ويُحيي أمة تعمل وتتقن وتُحاسب.
وغياب العمل والإتقان والعدل عن الواقع الاقتصادي في العالم الإسلامي ليس بسبب “الدين”، بل بسبب غياب تطبيقه المؤسسي، والانفصال بين الفكرة والحياة.
في المقال القادم، سنغوص في واحدة من أكثر المعضلات تعقيدًا: كيف تحولت الثروة الطبيعية إلى نقمة؟ ولماذا تسببت الموارد في الفقر بدل الازدهار؟