د. عماد بن محسن الشنفري
تُعدّ السخرية الأدبية من أكثر الأساليب فتكًا وعمقًا في التأثير؛ فهي لا تقتصر على إضحاك عابر أو نكتة لاذعة، بل تمثّل أداة فكرية حادّة تكشف التناقضات وتفضح الزيف بأسلوب لاذع ومؤثر. إنها فنٌّ أدبي راقٍ، يرتدي ثوب الهزل ليكشف عري الواقع، ويستخدم سيف التهكم ليقطع أوْرِدة الزيف والنفاق. إنها مرآة لاذعة للمجتمع، تنقل الحقيقة كما هي، ولكن بلغة قادرة على الوصول إلى القلوب والعقول معًا.
والسخرية الأدبية هي شكل من أشكال النقد الذكي، تُستخدم فيه المفارقة، والتناقض، والتضخيم، والتلميح الساخر، لتسليط الضوء على الأخطاء، والفساد، والتناقضات في المجتمع والسياسة والدين والحياة اليومية. ويتقنها الكتّاب الذين يملكون حسًّا حادًّا بالواقع، وقدرة لغوية استثنائية تسمح لهم بتحويل الألم إلى ضحكة، والغضب إلى نصٍّ أدبي يفضح الواقع بأدب.
والكُتّاب الساخرون عبر التاريخ لم يكن الطريق أمامهم ممهَّدًا، بل كثيرًا ما كان معبّدًا بالخوف والملاحقة والمقصّ، بل والموت. فالسخرية تُخيف، وتكشف، وتوقظ، ولذلك كانت كثير من الأنظمة ترى في هذا الأدب تهديدًا مباشرًا لاستقرارها، أو تجده مثيرًا للفوضى وإثارة الرأي العام، فتسعى إلى القضاء عليه قبل أن يتفاقم.
ومن أشهر من احترف هذا الفن جوناثان سويفت من إنجلترا، ففي كتابه رحلات غليفر لم يكن يروي حكايات أطفال، بل كان يسخر من النظام السياسي البريطاني والطبقية الاجتماعية. وكذلك مارك توين، الذي استخدم السخرية في رواياته مثل مغامرات هاكلبيري فن وتوم سوير، لفضح العنصرية والرياء الأخلاقي في المجتمع الأمريكي.
أما جلال عامر من مصر، فكان كاتبًا ساخرًا استثنائيًا، استخدم المفردة البسيطة لتفكيك الواقع العربي بحسٍّ فكاهي عميق، وكان يقول: “الكاتب الساخر لا يكذب، بل يقول الحقيقة بطريقة تُضحك لأنها تؤلم”. وكذلك نهاد قلعي ودريد لحام، في أعمال مثل “صح النوم”، جمعا بين الفن الدرامي والسخرية السياسية الراقية، فأوصلا رسائل لا يجرؤ أحد على قولها.
لكن حين تتحوّل الكلمة إلى تهمة في بلدان كثيرة، يكون مصير الكاتب الساخر الملاحقة أو النفي أو السجن، لأن السخرية تفضح الجهل والتسلّط، وتكشف المستور. ففي الاتحاد السوفيتي، صُفِّي العديد من الكُتّاب الذين استخدموا الرمزية والسخرية في أعمالهم. وفي بعض الدول العربية، أُغلقت صحف، وطُرد كُتّاب ساخرون لمجرّد أنهم كتبوا “ما يشعر به الناس”. وحتى في الغرب، عانى الساخرون من الرقابة والتضييق، خاصة في أزمنة الحروب أو الأزمات الأخلاقية والاقتصادية.
أما الدول التي آمنت بحرية التعبير وحقّ النقد، فقد منحت الأدب الساخر مساحة هائلة ليزدهر. ففي فرنسا مثلًا، توجد مجلات مثل شارلي إيبدو تمارس النقد الساخر حتى حدود التجديف، وقد تعرّضت لهجوم إرهابي بسبب ذلك، لكنها لم تتراجع. وفي أمريكا وبريطانيا، يُعتبر الكاتب الساخر عنصرًا مهمًّا في تشكيل الرأي العام، بل وتُمنح الجوائز للأعمال الأدبية الساخرة.
علينا أن نُثقّف مجتمعنا ومؤسساتنا بمختلف أنواعها بأن السخرية الأدبية، سواء في المقال أو القصة أو الرواية أو المسرح، ليست خطرًا، بل مؤشرٌ على صحة الفكر وحرية العقل. فالنقد الساخر هو لغة الكبار، والكاتب الساخر ليس مهرّجًا، بل فيلسوفٌ يرتدي قبعة المهرج. إنه الأدب الذي لا يُجامل، بل يُصارح، ويثير القلق المشروع، ويهزّ عرش الجهل والخوف.
وفي عالمٍ تتراكم فيه الأكاذيب، يصبح الأدب الساخر أداة تطهير، تُضحكنا كي لا نبكي، وتوقظنا دون أن نصرخ. إنه تمرين دائم على التفكير الحر، ولهذا، كلّما حُوربت المقالات الساخرة أو كاتبها، سواء بالمنع من الكتابة أو بالسجن، تأكّد أن الحقيقة باتت قريبة من السطح. وكلما ازدهرت، تأكّد أن المجتمع بدأ يتنفّس بحرية.