محمد بن علي الوهيبي/ كاتب عُماني
“انطلق كالمُهر في الدنيا، وكن من أنت حيث تكون، واحمل عبء قلبك وحدك، وارجع إذا اتسعت بلادك للبلاد وبدّلت أحوالها”…
كأن محمود درويش كتبها ليروي بها سيرة الفنان الكبير أبو بكر سالم، الذي رحل صوته في الآفاق ولم يتخلَّ يومًا عن هويته، فظل كما هو صوتًا يحمل وطنًا ووجدانًا لا تغيّره المسافات، ذاك الذي مضى في الحياة كالمُسافر الأبدي، يحمل صوته زادًا، وحنينه رفيقًا، فيغني للوطن والحب والغربة كمن يكتب تاريخه بمقامٍ يمانيٍ، طاف بأغنياته في أوتار الفن العربي بصوته العابق بالحب والشجن.
هو بحق “”هوية فنية يمنية خالدة”
كنا ننتظر صدور كاسيت جديد له كمن ينتظر بشارة فرح، الحديث عنه ليس سهلًا، فالكثيرون كتبوا عنه وأبدعوا لكن فنه يظل أبلغ من كل الحروف، فهو من يعرّف عن نفسه لكل ذوّاق للفن العربي الأصيل.
“والتذكار له في كل مسمَر وقيلة”…
ذاك هو العملاق أبو بكر سالم الشاعر والفنان والمثقف والأديب الذي لم يكن يغني فقط بل كان يكتب بصوته،
أغنياته تأخذك لعوالم لا يصلها إلا صوت فريد بطبقاتٍ متعدّدة، كأنها تخرج من أكثر من حنجرة، بلفقيه أدرك سرّ الكلمة، وسحر الطرب وروعة السلطنة.
هل يمكن أن ينتهي من قال:
“باشل حبك معي، بالقيه زادي ومرافقي في السفر…
باتلذذ بذكرك في بلادي، في مقيلي والسمر”؟
الله يا زمان مضى أيام”الجيتي” وشلنا يا بوجناحين” أغاني أبو بكر حكاية لا يعرفها إلا أجيال السبعينات والثمانينات وذاك الصوت الندي الذي رافقنا في أسفارنا وتنقلاتنا، ما من سيح قصدناه بسُمره وسدره وغافه، إلا وكان أبو بكر أول من يصل بصوته، يسبقنا إلى المكان ليكون أصدق مؤنس بأبهى حضور وكأنه المضيف وصاحب السَمر ومصدره لا زائرًا ولا طيفًا عابرًا في المكان.
يتوغّل عميقًا في أجواء القصيدة، التي كثيرًا ما كان هو كاتبها أو صاحبه الحكيم حسين المحضار، ليصب فيها صوته الفريد، ويخلطها بالموسيقى اليمنية الأصيلة، لتتجسد مقولة: “أصل الطرب يماني” ورغم شاعريته الباهرة، كان يقول بتواضع جم: “أنا شويعر، ولست بشاعر”مع أنه كتب أكثر من نصف أغنياته، التي اتسمت بخفة وبهجة وحداثة، مثل: تسلّى يا قليبي، إمتى أنا أشوفك، 24 ساعة، يا الله مع الليل بانسهر، ويوم الخميس.
شملت أغنياته كل ألوان التعبير الممكنة حب، وطن، غربة، حكمة، وتراث.
غنّى بكل لهجات اليمن وايقاعاتها، وبالفصحى، وقدم فنه بروح مبهرة، وبصوت لا يُشبه سواه،
في حضرة الأصيل أبوبكر سالم تأخذني الذاكرة إلى مثل هذه الأيام من شهر يوليو 2004، حين استقبلتنا صلالة بخريفٍ لا تتساقط فيه الأوراق بل ينهمر فيه الرذاذ برقة، كنتُ ذات ظهيرة خريفية في عزلتي بفندق حمدان معلقًا بين غفوةٍ ويقظة، وبين حنينٍ ينتقي ما يشاء من الذاكرة فتسلّل إلى أذني صوت أبو أصيل
“كل ما ذكروك
قالوا ذبلت غصونه
وإنطفت شمسه
وغابت عنده الغونه
بس أنا لي عين
ما شافت في الدنيا سواك
مشكلة في الناس
إن راضيتهم عادوك
وإن عاديتهم طلبوا رضاك”
انتشلني ملك الدان الحضرمي من عزلتي تلك وسرق النوم من جفني، ظننت بدايةً أن الصوت قادم من إحدى الغرف المجاورة أو من الإذاعة الداخلية للفندق، لكن ما إن فتحت باب الغرفة، حتى بان لي أن الصوت ينساب من قاعة قريبة، مشيت أقتفي أثره، وكلما اقتربت تزايد أثره في قلبي قبل أذني حتى وصلت الباب، فوجدت حارس الأمن واقفًا. قلت له، بشغفٍ لا يُخفى ماذا يحدث هنا؟
فأجابني الحارس هنا الفنان أبو بكر سالم يجري تحضيرا لحفلٍ سيقيمه على مسرح المروج فقلت هل يمكنني الدخول للسلام على هذا المُبدع الكبير؟ فردّ معتذرًا: أبو أصيل لا يسمح لأحد بالدخول أثناء “البروفات”، لكن يمكنك العودة بعد ساعة من الزمن، لعلّه يكون قد أنهى استعداداته.
انتظرت الوقت، وعدت كان الصوت الفخم قد هدأ، فقال الحارس يمكنك الدخول الآن فدخلت وسلّمت على الحضور، فكان أبو بكر أكثرهم ترحيبًا رغم ودّه بدا عليه الوهن، لم يعد قادرًا على الوقوف طويلًا،
كان وكأنه يستند إلى عصا وجعه، يختزن في ملامحه تعب السنين، ومع ذلك لم تغب عن وجهه مسحة البهاء كان ذلك اللقاء السريع العابر والوحيد الذي جمعني به خارج أشرطة الكاسيت وحفلات التلفزيون تبادلنا التحية فتذكر حفلًا قديمًا في مسقط في بدايات السبعينات، حين كان المسرح بدائيًا بين الجبال السُمر في العاصمة مسقط، وقالها بحنين شفيف: “آه… ليت الشباب يعود يومًا.”
اليوم وإن غاب أبو بكر سالم بجسده فهو لا يزال حيًّا في وجداننا حاضرًا بصوته، بإحساسه، وبأعماله التي تسللت إلى أذواقنا وترسّخت في الذاكرة وأصبحت مع الزمن جزءًا من ملامح الطرب الأصيل. فبكل جدارة أبو أصيل هو الرمز الفني الأبرز في جزيرة العرب كظاهرة غنائية فريدة ومدرسة قائمة بذاتها، جمعت بين أصالة الموروث وحداثة التطوير.
تروي الحكايات إلى أنه بدأ مسيرته مؤديًا للأناشيد الدينية في تريم حضرموت في خمسينيات القرن الماضي، وكان معلمًا للغة العربية وحينها ولدت في ذاكرته أغنيته الأولى “يا ورد ما أحلى جمالك” لحنًا وشعورًا، فطارت عبر أثير إذاعة عدن عام 1956، قبل أن تعتنقها حنجرة الفنان المبدع طلال مداح عام 1958.
لم يطرق أبو بكر أبواب معاهد الموسيقى، لكنه علّم الموسيقى كيف تكون وكيف تؤدى وزّع وألّف بإحساس صافٍ، فنبضت ألحانه بالحياة، تألقت بلمسة شاعر يعرف سحر النغمة، وقاد فرقته كقلب يخفق بإيقاعٍ فريد لا يُدرّس في الكُتب.
أبو بكر سالم يبقى ليؤنس ليل الغياب ويُعيد للحظة نبضها كلما مرّ طيفه في أغنية
ثم من قال إن الغياب نهاية؟
فبعض الغائبين هم أول الحاضرين.
الصورة: بعدسة الأستاذ ذياب بن صخر العامري