محمد جواد أرويلي
كاتب وصحفي إيراني
في لحظةٍ فارقة من عمر الملف النووي الإيراني، قررت واشنطن الانتقال من طاولة المحادثات إلى الميدان، من خلال ضربة عسكرية استهدفت منشآت نووية حساسة، قيل إنها تهدف إلى تدمير برنامج إيران النووي وإضعاف قدرتها على تخصيب اليورانيوم.
لكن النتيجة بدت معاكسة تمامًا: فطهران اليوم لا تُخفي نيتها بتسريع البرنامج النووي، وربما الخروج من معاهدة حظر الانتشار النووي (NPT).
في ظل العجز الإسرائيلي عن مواجهة إيران، تدخلت أمريكا لإنقاذ حليفها من ورطته العسكرية والسياسية، محاولةً فرض “سلام بالإكراه”.
لكن إيران، كما أكد قائد الثورة الإسلامية السيد علي الخامنئي، لا تخضع لمنطق الإملاء، بل ترد من موقع السيادة والثقة بالنفس.
وما لم تنجح أمريكا في انتزاعه عبر المفاوضات، لم تحقّقه بالصواريخ. بل الأدهى من ذلك، أنها منحت طهران الذريعة الأقوى لإعادة رسم قواعد اللعبة النووية بشروطها. فالعِلم لا يُقصف، والتكنولوجيا التي ترسّخت في جامعات إيران منذ سنوات، لا يمكن محوها باغتيال أو غارة عسكرية.
الواقع أكّد أن واشنطن لم تحصد من هذه الضربة سوى مزيد من التعقيد والفشل. فالمطلب الأمريكي الرئيسي، منذ محادثات فيينا وحتى اللقاءات غير المباشرة الأخيرة في مسقط وروما، كان “تصفير تخصيب اليورانيوم” داخل إيران، وهو ما رفضته طهران مرارًا، متمسكةً بإنجازاتها العلمية وبحقها المشروع بموجب معاهدة عدم الانتشار النووي (NPT).
اليوم، وبعد الهجوم العسكري الذي لم يُحدث – بحسب المعطيات الأولية والتدابير الذكية لمنظمة الطاقة الذرية الإيرانية في نقل معظم اليورانيوم عالي التخصيب من فوردو إلى مكان آمن – شللاً فعليًا للبرنامج النووي، باتت إيران في موقعٍ يمكّنها من الرد عبر خيارات استراتيجية.
أحد هذه الخيارات يتمثّل في استئناف تخصيب اليورانيوم بوتيرة أسرع وبنسب أعلى من السابق، وربما الخروج الكلي من معاهدة (NPT) التي لم تحمِ منشآتها من الهجوم.
إن استهداف منشآت نووية تخضع لإشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية يمثل انتهاكًا صارخًا لمعاهدة حظر الانتشار النووي، ويقوّض الثقة في النظام القانوني العالمي.
وهو ما يمنح إيران مبررًا قانونيًا للانسحاب من الاتفاقيات الدولية أو تعليق تعاونها الفني.
فبعد سنوات من التعاون التقني والتفتيش المستمر، بات من الصعب على طهران مواصلة التنسيق مع الوكالة كما في السابق.
وقد وجّهت الضربة الأمريكية في الحقيقة ضربة مزدوجة للوكالة ذاتها، التي وقفت عاجزة عن حماية منشآت مُعلنة وتحت الرقابة الدولية.
يدرك صنّاع القرار في طهران أن عملية تخصيب اليورانيوم ليست مجرد معدات ومبانٍ يمكن قصفها، بل هي منظومة معرفية وتقنية متجذرة تُدرَّس في الجامعات الإيرانية منذ عقود.
وحتى في حال استهداف العلماء، فهناك أجيال من المتخصصين يواصلون هذا المسار، ما يجعل تصفية المعرفة النووية الإيرانية أمرًا مستحيلًا.
وفي خلفية هذا التصعيد، يتجلّى الهدف الحقيقي من الضربة: إخراج إسرائيل من مأزقها الأمني والإقليمي عبر فرض “سلام بالإكراه” على إيران، وهو ما عبّر عنه بوضوح السيد علي الخامنئي، حين أكد أن طهران لن تخضع لهذا النوع من الابتزاز، لا عسكريًا ولا سياسيًا.
بالتالي، ما لم تحقّقه أمريكا في قاعات التفاوض، لم تحقّقه في سماء إيران. بل ربما أطلقت شرارة مرحلة جديدة أكثر حساسية، يحضر فيها النووي بقوة، ويأتي الخيار العسكري بنتائج عكسية، وتقترب المنطقة من إعادة تشكيل موازين القوى.