أحمد بن حسن البحراني/ محامي
مقدمة
تشكل الوظيفة العامة التزامًا أخلاقيًا وقانونيًا جوهريًا، يتطلب من شاغلها أن يتجرد من المصالح الشخصية، ويخضع بالكامل لمقتضيات المصلحة العامة وحكم القانون. ومن هذا المنطلق، أولى المشرّع العماني عناية بالغة بتجريم أي انحراف في سلوك الموظف العام، خصوصًا ما يمس الذمة المالية.
ورغم أن مصطلح “الغدر” لم يُستخدم صراحة في قانون الجزاء العماني، فإن المضمون الكامل لهذه الجريمة قد تجسّد بوضوح في المادة (215)، التي تُحيط بأوجه الاستغلال المالي للسلطة الوظيفية، سواء بطلب أو باستيلاء على ما ليس مستحقًا من أموال عامة.
تعريف جريمة الغدر في الفقه الجنائي
تُعرّف جريمة الغدر بأنها سلوك الموظف العام الذي يطلب أو يأخذ مالًا عامًا لا يحق له تحصيله، أو يتجاوزه بالقدر المقرر قانونًا، مع علمه بعدم أحقيته في ذلك.
وهي تختلف عن الرشوة أو الاختلاس من حيث الوسيلة والهدف، لكنها تشترك معهما في كونها تمثل اعتداءً على المال العام، وعلى ثقة الدولة في موظفيها.
الإطار القانوني في التشريع العماني – المادة (215)
تنص المادة (215) من قانون الجزاء العماني على:
“يُعاقب بالسجن مدة لا تقل عن (6) ستة أشهر، ولا تزيد على (3) ثلاث سنوات، كل موظف عام مختص بتحصيل الضرائب أو الرسوم أو الغرامات أو نحوها، طلب أو أخذ ما ليس مستحقًا أو أكثر مما هو مستحق مع علمه بذلك.
وإذا استولى على ذلك لنفسه أو لغيره، تكون العقوبة السجن مدة لا تقل عن (5) خمس سنوات، ولا تزيد على (10) عشر سنوات، وبغرامة تساوي المال المستولى عليه.
وفي جميع الأحوال، يُحكم على الجاني بالرد، والعزل من الوظيفة، والحرمان من تولي الوظائف العامة بصورة مطلقة.”
يمثّل هذا النص عماد المسؤولية الجنائية عن سوء استغلال السلطة المالية، سواء ارتُكبت الجريمة من خلال مجرد الطلب، أو تطورت إلى الاستيلاء الفعلي.
أركان الجريمة
- الركن المادي:
يتمثّل في سلوك الموظف العام المتمثّل في طلب أو تحصيل مال عام غير مستحق، أو يزيد على الحد المقرر قانونًا. - الركن المعنوي:
يشترط القانون العلم بعدم الاستحقاق، مما يعني أن القصد الجنائي (العمد) هو ما يميز الجريمة عن الأخطاء المهنية أو الإدارية. - الصفة الخاصة:
الجريمة لا تُرتكب إلا من موظف عام مختص بتحصيل الأموال العامة (كالضرائب أو الرسوم أو الغرامات)، مما يجعلها جريمة ذات صفة خاصة مرتبطة بالمركز الوظيفي.
استقراء لنص المادة (215)
يُظهر تحليل نص المادة (215) عمق الصياغة التشريعية التي اعتمدها المشرّع العماني، ويتضح ذلك من خلال:
- تأكيده على العقاب حتى على مجرد الطلب، مما يعكس حرصه على الوقاية لا العقاب فقط.
- التدرج في العقوبة بحسب خطورة الفعل؛ فالسجن من 6 أشهر إلى 3 سنوات في حال الطلب أو التحصيل غير المشروع، بينما تُغلّظ العقوبة إلى السجن من 5 إلى 10 سنوات إذا تم الاستيلاء على المال لنفس الموظف أو لغيره.
- إقرانه العقوبة الأصلية بمجموعة من العقوبات التبعية مثل الرد والعزل والحرمان من الوظيفة، في إشارة إلى البعد الأخلاقي والاجتماعي للجريمة، وليس فقط المالي.
موقع المادة (215) في الفقه المقارن
عند المقارنة مع قوانين الدول الأخرى، نجد أن المادة (215) تُقابل المادة (114) من قانون العقوبات المصري، والتي تنص على معاقبة الموظف الذي يطلب أو يحصل على مال غير مستحق مع علمه بذلك.
ورغم اختلاف التسمية، فإن الجوهر واحد: استغلال النفوذ الوظيفي للإضرار بالمال العام.
إلا أن المشرّع العماني تميّز بتوحيد مظاهر السلوك تحت نص واحد، وإدراج العقوبات التبعية بشكل إلزامي، مما يعكس توجهًا تشريعيًا زاجرًا ورادعًا لحماية الوظيفة العامة من الانحراف.
خاتمة
إن المادة (215) من قانون الجزاء العماني تُجسّد بامتياز جريمة الغدر بمفهومها الفقهي، حتى وإن لم يُذكر المصطلح لفظًا. فهي تعبّر عن رؤية تشريعية واعية تسعى إلى صون المال العام، وتعزيز مبدأ الشفافية والنزاهة الوظيفية.
ولذلك، فإن فهم هذه المادة وتحليلها يُعد ضرورة حيوية لكل مهتم بالقانون الجنائي الإداري، سواء من حيث التطبيق القضائي أو من زاوية تطوير السياسات الوقائية في المؤسسات العامة.