منى بنت سالم المعولية
متشبثة بتلابيب القراءة، كعادةٍ لا يمكنني مقاطعتها، وإن هجرتُ الكتابة برغم الارتدادات أحيانًا. ومع كل مقاطعتي للنصوص الفضفاضة مثل الروايات، إلا أنني ارتطمتُ بشبه سيرة ذاتية أو نص روائي يسرده الفرنسي بيير آميدي جوبير، مبعوث نابليون إلى شاه إيران في القرن التاسع عشر.
كان ذلك بعد أحداث دموية شهدتها فرنسا، عقب الثورة والثورة المضادة، وبعد أن التهمت الثورة أبناءها، وحمام الدم الذي سُفك كقرابين من أجل التمسك بالسلطة. إنها السلطة ذاتها التي قُطع بسببها رأس دانتون، وهي ذاتها التي عادت مقصلتها لتطيح برأس روبسبير، عرّاب الإعدامات لكل من خالفه في الرأي، والذي ألّف قواميس من التهم الجديدة بذريعة معاداة الثورة والإساءة إلى أهدافها النبيلة.
لقد أخذتني هذه المذكرات عن الأسير الفرنسي، الذي تم أسره من قِبل محمود باشا في مدينة بايزيد التركية، وتم إنزاله مع ثلاثة من مرافقيه إلى سجن رطب عبر حبال مربوطة بكوة علوية، ليجدوا أنفسهم في قاع صهريج سابق مقطوع الهواء، إلا من تلك الكوة البعيدة. وكان الظلام، والطعام الرديء، وسجانهم العطوف الذي رقّ لحالهم، رفقاءهم في تلك العتمة. هذا السجان الذي جمعته صداقة بجوبير، امتدّت عطاياها حتى بعد وفاته، إذ استمر جوبير بإرسال معونة إلى ذاك الحارس المسن الذي يدين له بحياته ونجاته.
كانت هذه الرواية أو السيرة الذاتية ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكر. ولا أندهش إن علمتُ أنها فعلاً حصدت الجائزة، وإن كنتُ لستُ متأكدة من ذلك، ولا أسعى للتحقق منه.
جاءت هذه السيرة، أو هذه التحفة الأدبية، من الكاتب السوري الكردي جان دوست، المهاجر إلى ألمانيا – إن صحّت المعلومة كما قرأتها – مما يفتح باب التأمل في شخصية أدبية فذّة، تنتمي أصولها إلى جغرافيا الشرق الأوسط الغارق في ميادين المعارك في كثير من أقطاره المنسية.
وأعود إلى كتاب مذكرات الأسير الفرنسي، الذي تلاعب بالزمن على لسان الشخصية الأساسية تلاعبًا غير أفقي ولا تصاعدي، بل عبر تداخلات واشتباكات بين سطوة الأسر ونيره، وبين ذاكرة الطفولة والفرار من مفاصلها، وبين دفء العائلة ولهيب العشق والعاطفة، وبين مدرسة اللغات الشرقية التي تعلّم فيها جوبير لغات الشرق، كالعربية والتركية والفارسية، مما أهّله أن يكون مبعوثًا لنابليون، ويقع في الأسر غدرًا على يد باشا طمّاع خائن، طمع فيما يحمله المبعوث من هدايا ومخصصات للشاه.
وقد تردد السرد بين الأزمنة، ليعرج إلى ذكر أن هذا المبعوث نفسه كان ضمن الأسطول الذي قاده نابليون بونابرت حين قرر غزو مصر.
أحببتُ هذا الكتاب، وأردت مشاركتكم إياه، لعله يكون ضمن أجندة صيف ممتع لطابور القراءات.