د. حمد بن مبارك الرشيدي
“إن المحاماة كالصخرة الشماء التي تطاول عنان السماء والتي سترتد عنها ولا ترقى إليها أطماع الطامعين أو مغامرات المغامرين وستظل صامدة في كل عهد وحين مرفوعة الرأس وضاءة الجبين وقناتها لا ولن تلين لأي غامز ”.
لقد كنت أتساءل مستغربا كيف يمكن إعطاء ترخيص بمزاولة مهنة المحاماة دون إجراء مقابلات واختبارات من قبل لجنة شؤون المحامين حيث إن هذه المهنة عظيمة الخطر والأثر فهي مهنة عمادها إرجاع الحقوق لأصحابها ولا ينبغي أن يتسنم ذراها إلا أناس خالط القانون أنفسهم وامتزجت النزاهة بأرواحهم وجرت الفصاحة على ألسنتهم ولذلك لما أراد موسى عليه السلام من يعضده في رسالته ويكون بمثابة المحامي عن نبوته اختار هارون لأنه “أفصح مني لسانا”.
وبرغم أن كثيرا من المحامين العمانيين يشار اليهم بالبنان وهم فرسان الميدان الا ان المحاماة قبل القانون الجديد دخل بها أيضا من ليس أهلا لها ولكن ولله الحمد وفي بادرة مهنية رائدة وخطوة إصلاحية هادفة، نظّمت وزارة العدل والشؤون القانونية في سلطنة عمان مؤخرًا اختبارات تأهيلية للمحامين الراغبين في الترقية من درجة “محامي ابتدائي” إلى “محامي استئناف”، ومن “محامي استئناف” إلى “محامي عليا”. وتُعد هذه الخطوة الأولى من نوعها في تاريخ مهنة المحاماة في السلطنة، وتأتي تنفيذًا لأحكام قانون المحاماة الجديد الذي صدر بموجب المرسوم السلطاني رقم ٤١/٢٠٢٤، واللائحة التنفيذية المرافقة له.
وقد اطلعت على هذه الاختبارات التي تضمّنت أسئلة اختيار من متعدد وأخرى مقالية تحليلية، تناولت محاور متعددة من أبرزها: كالقوانين المعمول بها في السلطنة ومدى إلمام المحامي بتفاصيلها والمبادئ والأحكام المرتبطة بالإجراءات القضائية على مستوى الاستئناف والعليا وأخلاقيات مهنة المحاماة ومدى التزام المحامي بها ومدى الإلمام بالمدد القانونية المتعلقة بالاستئناف والنقض ومهارات الصياغة القانونية والتحليل القضائي للقضايا المعقدة.
إن ما يميز مهنة المحاماة عن غيرها من المهن أنها ترتبط بشكل مباشر بـحقوق الأفراد وحرياتهم، وأي تقصير أو خطأ من المحامي قد يترتب عليه ضياع حقوق الموكلين أو المساس بمكانة العدالة. ولذلك، فإن هذه الاختبارات سعت إلى فلترة غير المؤهلين: من خلال اختبار علمي وعملي دقيق، يتم التأكد من خلاله أن المترقي إلى درجة أعلى يمتلك بالفعل الكفاءة والمعرفة المطلوبة كما تهدف لمنع الأخطاء المهنية الجسيمة: كالسهو عن المدد القانونية، أو تقديم طعون غير مكتملة، أو ضعف المرافعة، وهي أخطاء تتكرر بسبب عدم تمحيص المحامي قبل ترقيته وغني عن القول فإن هذه الاختبارات تحمي المجتمع من الممارسات غير المهنية: حيث تؤدي بعض الأخطاء إلى اهتزاز الثقة العامة في مهنة المحاماة، ما يضعف من قيمة المحامي في المجتمع ولا ريب انها ترفع جودة الأداء القانوني فالمحامي المتمرس والمؤهل يثري المنظومة القضائية، ويقدم خدمة قانونية تليق بثقة الموكل وتساهم في تحقيق العدالة.
إن المحاماة ليست مهنةً فحسب، بل هي أمانة عظيمة ورسالة سامية. فالمحامي يتعامل مع أسرار الموكلين، ويُؤتمن على مصائرهم القانونية، مما يفرض عليه الالتزام بمبادئ النزاهة والشفافية. ولذلك ركزت هذه الاختبارات على تقييم الجانب الأخلاقي عبر أسئلة تختبر مدى إدراك المحامين لـ:- ضرورة تجنُّب تضارب المصالح والحفاظ على السرية المهنية واحترام قواعد السلوك في التعامل مع المحاكم والخصوم، لأن غياب الوازع الأخلاقي قد يؤدي إلى انهيار ثقة المجتمع في المهنة برمتها، كما قد يتسبب في ضياع حقوق أفراد لا حول لهم إلا اللجوء إلى القضاء.
ومن خلال هذه الاختبارات، تُبنى ثقافة قانونية جديدة في السلطنة، تقوم على مبدأ “لا ترقية إلا بكفاءة”، وهو مبدأ جوهري في التأسيس لمهنة محاماة عصرية، تحاكي النماذج المتقدمة عالميًا، وتضع المصلحة العامة والعدالة في المرتبة الأولى. إن إرساء منظومة اختبارات لترقية المحامين هو خطوة إصلاحية محورية تعكس وعي الدولة بأهمية مهنة المحاماة ودورها الحيوي في دعم العدالة وسيادة القانون. ومع تطبيق هذا النهج الجديد، فإننا نخطو بثبات نحو مهنة أكثر نزاهة، وأكثر تمكينًا، وأكثر قدرة على تمثيل الموكلين بأمانة ومسؤولية.
ومن أجمل ما قيل في وصف مهنة المحاماة ” إن المحاماة عريقة كالقضاء ، مجيدة كالفضيلة ، ضرورية كالعدالة ، هي المهنة التي يندمج فيها السعي إلى الثروة مع أداء الواجب حيث الجدارة والجاه لا ينفصلان ، المحامي يكرس حياته لخدمة الجمهور دون أن يكون عبداً له ، ومهنة المحاماة تجعل المرء نبيلاً عن غير طريق الولادة ، غنياً بلا مال رفيعاً دون حاجة إلى لقب سيداً بغير ثروة.”