ماجد بن سلطان بن ناصر الحضرمي
أصبح موضوع الاستدانة دون سداد حديث المجالس ومنصات التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، مما يستدعي منا وقفة جادة للبحث في هذه الظاهرة التي بدأت تتسع وتنتشر في مجتمعنا. لم تعد المسألة فردية، بل تحولت إلى قضية اجتماعية تمس النسيج الثقافي والمجتمعي، وأصبحت تُفرز تبعات سلبية تطال الجميع. فالظاهرة، كما يعرّفها الدكتور علي الوردي، ليست سلوكًا فرديًا، بل نمطًا جماعيًا متكررًا، يمكن رصده بسهولة لكثرة تكراره، ووقوع عدد كبير من الأفراد في شراكه.
وقبل الخوض في الأسباب، من المهم التذكير بأصل الدَّين في الشريعة الإسلامية. فالدَّين في أصله قرضٌ حسن، قائم على التيسير ومراعاة لظروف المحتاج، وهو امتداد لقيم التكافل والتعاون التي تميز المجتمعات الإسلامية. وقد فصّل فقه المعاملات في ضوابط الاستدانة، فنصّ على حُسن النية في السداد، وتحديد الأجل، والتوثيق بالكتابة، وخلو القرض من الربا أو الاستغلال. هذه الضوابط الشرعية لم تأتِ عبثًا، بل لحماية الطرفين – الدائن والمدين – وضمان حفظ الحقوق، ومنع الاستغلال أو التهاون في أموال الناس.
أسباب تفشي الظاهرة:
تتعدد أسباب انتشار هذه الظاهرة، لكن أبرزها ما يلي:
1. ضعف الوازع الديني: إذ يغفل البعض أن سداد الدين أمانة وواجب ديني، وأن التهاون فيه ظلم. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “مطل الغني ظلم”، فكيف بمن يأخذ أموال الناس بغير نية الرد؟
2. ضعف الوعي الاجتماعي: البعض لا يدرك أن كل سلوك فردي له أثر في المجتمع، وأن التساهل في رد الحقوق يهدد الاستقرار الاجتماعي، ويُضعف ثقة الناس ببعضهم.
3. الثقة وعدم التوثيق: كثير من الناس يمنحون القروض بدافع الثقة، دون كتابة أو توثيق، وحين يتلكأ المدين في السداد، يحول الحياء دون مطالبة الحق، فيتمادى المدين ويستهين برد الدين.
4. تصور خاطئ عن الدائن: يعتقد بعض المدينين أن الدائن ميسور الحال، وبالتالي لا حاجة له بهذا المال، وهذا من الظلم. فالمال المقترض حق أصيل للدائن، وغنى الدائن لا يُسقط حقه.
5. الشعور الزائف بالتفوق: من المؤسف أن بعض المدينين يشعرون بالانتصار عند حصولهم على المال دون سداد، وكأنهم تفوقوا بذكائهم – مكرهم – على الدائن. يتناسون أن من أقرضهم قد يكون آثرهم على نفسه وأهله، وقدم احتياجاتهم على ضروراته.
الآثار السلبية:
1. زعزعة الثقة: تفشي هذه الظاهرة يُقوض ثقة الناس ببعضهم، ويُضعف العلاقات الاجتماعية، ويُكرّس الشك بدل التعاون.
2. تعزيز الفردانية: حين تكثر هذه الحالات، يبدأ الأفراد بالتركيز على ذواتهم، وتغليب مصالحهم على الآخرين، فيتزعزع جسر التكافل، وتزداد الأنانية، وتُختزل العلاقات إلى مصالح ضيقة.
3. تهديد الاستقرار المجتمعي: حين يُحجم الناس عن إقراض المحتاجين خوفًا من ضياع الحقوق، تتراجع قيمة التعاون، وتزداد حالات العوز، وتُفقد الثقة حتى بين الأقارب. وهكذا، شيئًا فشيئًا، يتدهور الجانب الإنساني في المجتمع.
الحلول المقترحة:
1. تعزيز الوعي الاجتماعي: يجب غرس ثقافة المطالبة بالحق، فهي ليست نقيضًا للمروءة، بل حق مشروع. وتذكّر (أن الذي لا يستحي من أخذ مالك دون رده، لا يستحق حياءك). ثقافة المطالبة بالحق لا تقل أهمية عن مد يد العون.
2. الالتزام بالتوثيق وكتابة الدين: أمر الله سبحانه بذلك في قوله: “يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه”. التوثيق لا يُنقص من الثقة، بل يحفظها، وهو ضمان لحق المدين والدائن.
3. استحضار المسؤولية الدينية والأخلاقية: على المدين أن يعي أن مسؤوليته لا تنحصر على الدائن، إنما تشمل المجتمع ككل. وأن ظلم الناس في المال يقوض استقرار المجتمع، ويُسهم في تفشي الفردانية والفقر.
4. التمييز بين المستحقين والذين يتخذون الدين وسيلة للاستغلال : وذلك من خلال تحديد الضوابط الشرعية عند الإقراض.
خاتمة:
كما أن للإنسان حاجة تدفعه إلى الاقتراض، عليه أن يتحلى بالأمانة التي تلزمه بالسداد. وليكن قدوتنا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي كان إذا قضى دينًا، قضاه خيرًا مما أخذ، وقال: “إن خيركم أحسنكم قضاء”.
فالمجتمع بحاجة إلى مواجهة هذه الظاهرة بالوعي، لا بالصمت، وبالمطالبة لا بالتساهل. إن التصدي لهذه السلوكيات لا يحفظ المال فقط، بل يحفظ كيان المجتمع.