محمد بن علي الوهيبي
في خطواتي الأولى على طريق التعليم، كنتُ أظن أن الأنشطة المدرسية مجرد زينة زائدة على ثوب المنهج، ورفاهية لا مكان لها في جدولٍ مزدحمٍ بالدروس والخطط والاختبارات.
كنت أراها هدراً لوقت الحصة، وإرباكًا لمسار تعليمي منضبط، حتى كشف لي الزمن وتجاربي مع الطلبة، أن ما ظننته ترفًا كان في الحقيقة جوهرًا خفيًا لا تكتمل روح التعليم إلا به، تبدّلت رؤيتي كليًا وأدركت أن هذه الأنشطة ليست مكملًا بل ركنًا أصيلًا من أركان التربية الشاملة، وأنها تسهم في بناء شخصية الطالب، وتنمّي مهاراته التواصلية والاجتماعية، وتكسر رتابة التلقين الصفي.
إن الاكتفاء بما تقدمه الكتب وحدها قد يترك العملية التعليمية قاصرة، تفتقد لروح التفاعل، وقد يتسلل إلى نفوس الطلبة الملل والفتور، ويفقدهم شغف التعلم.
لذا فإن النظرة إلى هذه الأنشطة ينبغي أن تتغير من كونها مجرد فاصل ترفيهي إلى كونها مساحة تعلم غير صفية تعزز المهارات وتكمّل ما يتعلمه الطالب في الفصل إذا ما طُبِّقت بالشكل الصحيح.
تتحول الأنشطة المدرسية إلى مضيعة للوقت إذا افتقرت إلى التنظيم، أو انقطعت صلتها بالمناهج الدراسية، أما حين تُصمَّم بعناية، وتتكامل مع المحتوى التعليمي، فإنها تتحوّل إلى جسرٍ حيوي يربط بين النظرية والتجربة، وتمنح الطلبة مساحةً لاكتشاف الذات، وتفعيل المعرفة، وتذوّق متعة التعلّم الحيّ، وتكون مفيدة للمحتوى التعليمي إذا أُحسِن استثمارها، فهي تعزز المهارات الحياتية كالتواصل، القيادة، العمل الجماعي.
و تكتشف المواهب والميول التي لا تظهر في الحصص الدراسية.
ومن شأنها أن تساهم في تحفيز الطلبة المتعثرين دراسيًا من خلال إشراكهم في أنشطة يبدعون فيها، كما أنها تقوي الروابط بين الطلبة والمدرسة وتزيد من دافعيتهم للتعلم.
في اللغة العربية مثلا قد تشمل الأنشطة مناظرات، مسرحيات، قراءة بعض القصائد، إعداد صحف الحائط.
وهنا لا يسعني إلا أن أثني على خطوة وزارة التربية والتعليم في دعمها لتأسيس أندية العلوم والابتكارات في المدارس،
فهي رؤية ناضجة تستشرف المستقبل، وتُعلي من قيمة الأنشطة النوعية، حيث يُمنح الطالب فيها مساحة للتجريب والاكتشاف، في أحد أرقى أشكال النشاط المدرسي وأكثرها أثرًا في تنمية الفكر والمهارة.
إن أندية العلوم والابتكارات لا تكتفي بكونها مساحة إثرائية فحسب، بل تُعد منصات حقيقية لصقل العقول الناشئة، وبناء شخصية الطالب المفكر، المتسائل، والمبادر. فمن خلال هذه البيئات التفاعلية، يتعلم الطالب أن يسأل قبل أن يُلقّن، وأن يجرّب قبل أن يَحكم، وأن يفكّر خارج الصندوق وهو لا يزال على مقاعد الدراسة. إنها مختبرات صغيرة لأحلام كبيرة، تُشعل في النفوس شرارة الفضول وتُمهّد الطريق نحو مستقبل أكثر إشراقًا.
يمكن لهذا النادي أن يكون حاضنة للابتكار، ومصدرًا لإلهام جيل من المبدعين.
ندرك أن ألوان الأنشطة تتنوع بين الرياضة، والثقافة، والاجتماعيات، والفنون، لتتناغم مع ميول الطلبة وتلبي تطلعاتهم المتعددة.
كما يُعد إشراكهم في التخطيط والتنفيذ خطوة جوهرية من شأنها أن تغرس فيهم روح القيادة وتحفز فيهم حسّ المسؤولية.
ويمكن للتربويين أن يقيسوا أثر كل نشاط. هل أوقد شرارة الشغف والحماس؟ هل أضاف معنى وقيمة؟ فالتقييم ركيزة لضمان جودة النشاط وتحقيق أهدافه.
وحتى تبقى الأنشطة المدرسية ذات قيمة ومعنى، ينبغي ألا تُنتزع من زمن الحصص عبثًا، بل تُدمج بعناية ضمن جدول تعليمي متكامل، تُساند المنهج ولا تزاحمه، بل تُضيء جوانبه وتفتح نوافذه على الحياة. إنها مساحة ينصت فيها الطالب إلى صوته الداخلي، ويعبّر عن شغفه بعيدًا عن قيود التلقين. ففي كل نشاط نبضٌ جديد يجعل الطالب أقرب إلى مدرسته، ويجعل من التعليم رحلة ممتعة مليئة بالدهشة واللحظات المبهجة، ومن الكتاب نافذة لحياة تُستكشف وتعاش بكل الحواس.