الكاتب: بدر بن سالم العبري
محمد عمارة من المفكرين المعاصرين الّذين ساهموا في الحراك الفكريّ المعاصر، وله تأثير كبير في الحركة الإصلاحيّة المعاصرة، وكذا الحركة النّقديّة والعقلانيّة الإسلاميّة – إن صح التّعبير -، لهذا اهتمّ بمؤلفات المصلحين، وله العديد من التّقديم الواسع والطّويل للعديد من الكتب الإصلاحيّة الّتي تصدرها مجلّة الأزهر الشّهريّة، كما له مجموعة من الأعمال الكاملة لهؤلاء، كالأعمال الكاملة لرفاعة الطّهطاويّ [ت 1873م]، والأعمال الكاملة لجمال الدّين الأفغانيّ [ت 1897م]، والأعمال الكاملة لمحمد عبده [ت 1905م]، والأعمال الكاملة لعبد الرّحمن الكواكبيّ [ت 1902م]، والأعمال الكاملة لقاسم أمين [ت 1908م]، والأعمال الكاملة لعليّ مبارك [ت 1893م].
وعمارة من مواليد مركز قلين بكفر الشّيخ في مصر، وله العشرات من المقالات والكتابات والمشاركات، وهو عضو مجمع البحوث الإسلاميّة بالأزهر الشّريف.
ويأتي أهميّة كتاب الإسلام والفنون الجميلة والذّي أصدرته دار الشّروق أنّه انتقل في رؤيته لعلاج هذه القضيّة من جانب فقهيّ وروائيّ إلى جانب فلسفيّ من خلال قيمة الجمال، والّتي ارتبطت بعلم الجمال، لهذا وإن كان علم الجمال قديم الحضور؛ لارتباطه بالفلسفة التّأمليّة والأخلاقيّة، إلا أنّه كعلم حديث النّشأة، ولهذا كان انطلاق عمارة، فهو وإن لم يتعمّق فلسفيّا فيه، إلا أنّه انطلق من جماليّة الإسلام، وأنّ الإسلام كما يراه لا يخاصم الجمال، ولا يعادي فنونه، والمسلم الأمثل لا يمكن أن يكون المتجهم الّذي ينزع عن جماليات الحياة فقط، فهناك المعايير الاعتقاديّة والأخلاقيّة الّتي يجب أن تحكم موقف المسلم تجاه هذه الفنون حتى تظلّ مصدرا حقيقيّا للخير والجمال في حياة الإنسان!!
ويرى أيضا من النّاس من يحسب أنّ هناك خصومة بين الإسلام وبين الجمال، تدعو المسلمين إلى التّجهم في النّظرة إلى الحياة، وإدارة الظّهر إلى ما في الكون من آيات البهجة والزّينة والجمال، وسببه النّظرة السّلبيّة لبعض المسلمين والتّراث الّذي ورثوه دون نقد وإعمال عقل إزاء بعض فنون الجمال.
وقد قسّم عمارة كتابه إلى أربعة فصول، تناول في الفصل الأول المسلم والجمال، فهو يؤكدّ في هذا الفصل أنّ الآيات القرآنيّة تنطلق بالإنسان بداية إلى جمال الكون، مثل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[2]، والإنسان أمر بالنّظر فيها والتّمتع جماليّا بها .
وبين عمارة أنّ الله تعالى استخدم في بعض الآيات حتى عبارات الجمال نحو قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ}[3]، فلفظة الزّينة هي لفظة جمال .
والقرآن الكريم أمر المسلم بالتّزين والجمال، وفي الوقت نفسه أنكر فيمن شدد وحرّم ذلك على نفسه، أمّا الأول فيظهر من خلال قوله تعالى: {يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}[4]، وأتبعها مباشرة بقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}[5].
ثمّ عرّج عمارة إلى نماذج عمليّة للجمال النّبويّ من تسريحه – صلّى الله عليه وسلّم – لشعره وتزينه وتعطره، وظهوره الجماليّ في لباس وحسن هيئته، واختياره لأصحابه الاسم الحسن، وكان يحب الجميل من الطّعام، بلا تقتير ولا إسراف، وحبه للصّوت الحسن، وتحببه إلى خدمه وحسن معشره، وعدم إنكاره على النّاس في لهوهم في أعيادهم، أي ما يسمى اليوم بالفنون الشعبيّة.
وفي الفصل الثّانيّ يتطرق إلى جماليات السّماع، حيث يطرح في بدايته هذا السّؤال: لماذا شاعت وتشيع الكتابات والمأثورات حول مخاصمة الغناء والموسيقى وأدواتهما، والعداء لفنون التّشكيل رسما ونحتا وتصويرا على وجه الخصوص؟
وفي الإجابة عن هذا السّؤال بعد بيان عمق قدم الخلاف، أنّ سبب هذا يعود إلى ثلاث منطلقات: الأول وقائع حدثت في عصر البعثة وفي بيت النّبوة والمسجد النّبويّ وبيوت الصّحابة ممّا يدخل في السّنة العمليّة والممارسة التّطبيقيّة للمنهج النّبويّ تعلن عن إباحة الغناء، وتفيد بوجود اجتهادات أراد أصحابها وهم صحابة منع الغناء؛ لكن الرّسول أقرّ الغناء، ونبه أصحاب هذه الاجتهادات على خطئها.
والمنطلق الثّانيّ أحد عشر مأثورا من الأحاديث تفيد منع الغناء والنّهي عنه، مع توعد السّامعين والمغنين.
والمنطلق الثّالث تفسير عدد من مفسري القرآن لفظة اللّهو في آية {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}[6] بأنّها الغناء.
فعمارة انطلق بداية من المأثورات العمليّة، وسبق الإشارة إليها، وسيأتي بيانها في مبحث الأدلّة كرواية الجواري عند عائشة [ت 58هـ] وغيرها، وهي منطلق وشواهد عمليّة على إباحة الغناء وما يصاحبها من فنون مساعدة.
ثمّ انطلق من نقد ابن حزم [ت 456هـ] للرّوايات المأثورة، ومن تفسير آية اللّهو، وقد بلغت عشرين أثرا فخلص أنّها جميعها إمّا معلولة أو موضوعة، وأمّا آية اللّهو فتفسيرها بالغناء ليس حجة لأنّه تفسير، ولو صح لكان مقيدا بيضل عن سبيل الله، وكلّ ما ضلّ عن سبيل الله فهو حرام ولو شراء مصحف وتعليم قرآن، ثمّ أورد كلام القرطبيّ [ت 671هـ] في الاختلاف في تفسير الآية، وسيأتي بيانه أكثر في مبحث الأدلّة.
وبعدما تحدّث عن الغناء تحدّث عن آلات العزف – الموسيقى –، وخلص إلى أنّ الأحاديث الّتي وردت في منعها أو تحريمها فهي الأخرى معلولة بمقاييس علم الجرح والتّعديل.
ولهذا يصل إلى قاعدة أنّ الغناء لا يعدو أن يكون بعضا من ألوان الجمال الّذي خلقه الله تعالى، ومعيار الحلّ والحرمة فيه هو وظيفته الّتي يوظف فيها، والمقصد الّذي يقصده النّاس من ورائه، فإن أسهم في ترقية السّلوك الإنسانيّ، والارتقاء بعواطف النّاس، وأعان على تذوق نعم الله في كونه، والكشف عن آيات الجمال في إبداعه؛ كان خيرا، وإلا فهو منكر بلا خلاف.
والسّنة الفقهيّة تحكم على الغناء من خلال وظيفته لما يمثله من ضرورة من ضرورات الحياة الإنسانيّة، فهو يدور بين الإباحة والكراهة والحرمة تبعا لوظيفته وطبيعته.
وهنا يشير إلى لطيفة جميلة وهي أنّه في العهد النّبويّ كان يسمى بالغناء واللّهو، واستخدمت هذه اللّفظة لعدّة قرون[7]، وفي عهد الشّافعيّ [ت 204هـ] ظهر مصطلح غناء الزّنادقة ليصدوا به عن القرآن الكريم، ولما شاع التّصوف ظهر مصطلح السّماع.
وأمّا الفصل الثّالث كان معنوننا بهذا السّؤال: فيما الخلاف؟، وينطلق في الإجابة عليه من خلال إزاء لونين من الخلاف والمخالفين: اللّون الأول المقلّدون من عامّة الكتاب الّذين عاشوا وكتبوا في ظلّ سيادة النّصوص الحرفيّة الجامدة، وهيمنة التّقليد، وضمور ملكة الاجتهاد، فتراجع الغناء كفنّ عام إلى فنّ مرتبط بالفسوق والمجون، فانقطعت العلاقة بين الغناء والفنّ الجميل، ثمّ جاء من يقدّس هذه الآراء والأقوال السّلبيّة، وتحرجوا عن إعمال العقل فيها، فعمموا تحريم الغناء على جميع الغناء.
واللّون الثّانيّ يربطه بسقوط بغداد على أيدي التتّار، حيث تراجعت العقلانيّة الإسلاميّة الجامعة بالوسطيّة بين النّقل والعقل، فكانت السّيادة للنّصوصيّة المخاصمة للعقل، ولنقيضها الغنوصيّة المخاصمة للعقل والنّقل معا!!
وهذا سقط على السّماع لأنّ الباطنيّة الغنوصيّة نقلوا الغناء من ميدان الفنّ إلى ميدان العبادة الدّينيّة، الّتي يتقربون بها إلى الله تعالى، ويحلونها محل العبادات والشّعائر الّتي جاء بتحديدها القرآن وسنة الرّسول عليه الصّلاة والسّلام، وهنا يكمن معرفة الخلاف، وسبب ارتفاع صوت النّظرة السّلبيّة.
وأمّا الفصل الرّابع فكان عن جماليّة الصّور والرّسم والنّحت، وهذا لا يهمنا كثيرا؛ لأنّه غير متعلّق ببحثنا، وتحدثت بصورة سريعة عن هذا الجانب في كتابي فقه التّطرف يمكن الرّجوع إليه.
وبهذه الرّؤية يقدّم عمارة رؤية متقدّمة وجديدة سيتفيد منها يوسف القرضاويّ [معاصر] كما سنرى في الحلقة القادمة.
يتبع الحلقة السّابعة والعشرون ………………..
الهامش:
[1] للمزيد ينظر: عمارة: محمد؛ الإسلام والفنون الجميلة، دار الشّروق، مصر، الطّبعة الأولى، 1411ه/ 1991م.
ولترجمته ينظر: الموسوعة العالميّة ويكبيديا، تأريخ الزّيارة: السّبت: 3 مارس 2018م، السّاعة الواحدة والنّصف ظهرا.
[2] الأنعام/ 99.
[3] الحجر/ 16.
[4] الأعراف/ 31.
[5] الأعراف/ 32.
[6] لقمان/ 6.
[7] ومصطلح اللّهو أو آلات اللّهو استخدمت عند الإباضيّة في فقهم لفترة طويلة. ينظر: الوهيبيّ: خالد، ورقة عمل الموسيقى وتقاليد الحكم السّياسيّة في عمان، ورقة مقدّمة للنّادي الثّقافي بسلطنة عمان، مرقون.