الحبيب سالم المشهور
عاش العالم حدثا عظيما هذه الأيام، وهو رحيل رأس الكنيسة الكاثوليكية البابا فرنسيس بعد عمر طويل قضاه في خدمة ما يؤمن به وفي السعي إلى جعل الدين ملاذا للمستضعفين وصوتا أخلاقيا في عالم تحكمه قيم المادة ويتنكر لعالم الأخلاق والمعنويات!
وقد يتعجب بعضنا لماذا كل هذا الاهتمام برحيل الرجل، خصوصا في الغرب، ونحن ندرك حجم الخصومة التاريخية التي أعلنها الغرب الحديث على الكنيسة الكاثوليكية، التي يتهمها كثير منهم بأنها المسؤولة عن كل المآسي التي عاشها الغرب، فما إن تُذكر الكنيسة إلا وتعود إلى الأذهان صورة اضطهاد الكنيسة للعلماء ومحاكم التفتيش والحروب الدينية والحكم الثيوقراطي، هذه هي صورة الكنيسة الكاثوليكية في أذهان كثير من الناس بعد نجاح الثورة الفرنسية وما نتج عنها من دعاية علمانية راديكالية أرادت أن تكون فرنسا وأوروبا على حذر وتوجس من كل ما هو ديني!
ولكن للقدر إرادة أخرى تغلب إرادة البشر، فها هي الكنيسة من جديد تُثبت للعالم أنها ما زالت رقما لا يُمكن تجاوزه على مختلف الأصعدة، وها هو الدين بعبارةٍ أخرى يُشغل العالم كله، وها هو رجل الدين يخطف الأضواء من جديد، ويتحول إلى أيقونة خالدة تتجاوز كل الحدود التي نعرفها.
وفي قناعتي أن هذا كله دليل على أن الإنسان الحديث لديه حنينُ عميق إلى الدين، يشعر إنسان اليوم بحجم الفراغ الكبير الذي تركه موقفه القديم من الدين، يريد إنسان اليوم أن يعود إلى الدين، ولكنه كذلك يتردد كثيرا في الإيمان!
يريد إنسان اليوم أن يؤمن ولكنه يخاف أن يقع ضحية لرجال دين لا صلة لهم بالوحي والسماء!
هناك مسؤولية أخلاقية كبيرة على عاتق كل رجال الدين أو المنتمين إلى الأديان، وهي تسهيل العقبات أمام الناس للإيمان من جديد!
استطاعت الكنيسة الكاثوليكية أن تعود إلى التأثير العالمي من خلال فهمها لروح العصر، وتركيزها على القيم الروحية الخالدة، واهتمامها بالإنسان، وتجاوزها لصراعات القرون الوسطى، وركونها إلى التواضع وتركها لاحتكار الخلاص!
وقد كان لعهد البابا فرنسيس وقيادته الروحية للكاثوليك دورا كبيرا كذلك في محاولة استعادة حياة السيد المسيح عليه السلام البعيدة كل البعد عن النمط الامبراطوري الذي سيطر على سلوك الكنيسة لقرون، كان البابا فرنسيس صادقا في تسامحه ودعوته للتعايش، فهو الشيخ الكبير الذي تجشم عناء السفر للقاء أكبر مرجعية روحية للمسلمين الشيعة، ورأيناه عبر الفضائيات في أزقة النجف ساعيا إلى بيت السيد السيستاني، ورأيناه ينصت بوقار شديد إلى حكيم العراق السيد السيستاني ويتفاعل مع خبرته في الروحية.
وهو كذلك الرجل الذي آمن بأهمية المرجعية الروحية للأزهر الشريف، وقد تجسد إيمانه هذا في علاقته الوثيقة بالإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، وهو كذلك رجل الدين الصادق الذي حاول جاهدا على كبر سنه إيقاف جرائم القتل الصهيونية في غزة.
هذه الكلمات ليست مقالاً في نعي البابا وليست جدلا كلاميا في مصيره الأخروي، ما يعنيني من تجربة الرجل هو كيف يمكن لرجل الدين أن يشارك في الحياة العامة من غير اللجوء إلى العنف والتطرف والإقصاء، وكيف يمكن كذلك أن نعيد الدين إلى حياة الإنسان المعاصر الذي يعاني كثيرا من سيطرة القيم المادية على واقعه.
العالم كله اليوم بحاجة حقيقية إلى العودة إلى روح الدين، نحن بحاجة إلى العودة إلى السماء، بحاجة إلى كلمات الله ووحيه، بحاجة إلى فهم جديد للدين يسمح لنا بتجاوز حالة الانغلاق والتعصب الديني، ويُتيح لنا فرصة التعرف على التقاليد الروحية الموجودة في الشرق والغرب، وتلمس الحكمة الخالدة عملا بحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أولى بها”.