محمد بن علي الوهيبي
من ذاكرة التعليم في منتصف ثمانينات القرن الماضي، كانت عملية استلام وتسليم الرواتب تختلف تمامًا عن مشهد اليوم،
ففي تلك الأيام، لم تكن التحويلات البنكية قد وُلدت بعد، ولا عرَف الناس شيئًا عن التطبيقات الإلكترونية أو أجهزة السحب الآلي التي تزدان بها اليوم زوايا الأسواق ونواصي الشوارع. كانت النقود تُلامس الأيدي مباشرة، وكان التعامل معها يشبه طقسًا يوميًا مفعمًا بالبساطة والاعتماد على الثقة، وكانت الرواتب تُسلّم نقدًا، في طقسٍ شهريّ يعبق بروح المسؤولية وبساطة الزمن الجميل.
وفي ذلك كانت تبدأ حكاية من الطراز القديم، مليئة بالمواقف والتعب والحنين، لنشهد طقسًا إداريًا فريدًا من نوعه، وكان الموظف المسؤول في الوزارة يُعدّ كشوفات الرواتب بخط اليد، ساهرًا على تنظيمها بدقة متناهية، كمن يخطّ بأصابعه على دفتر الزمن، في مشهدٍ تتداخل فيه الأمانة مع الصبر، وتتشكل فيه التفاصيل الصغيرة لتروي حكاية عهدٍ كان كل شيء فيه يُدار بروح الإنسان قبل أدوات التقنية.
وفي كل شهر كان مدير المدرسة في مدارس “العاصمة” يتوجه بنفسه إلى مبنى وزارة التربية والتعليم، حيث يتسلّم “الشيك” الخاص بمدرسته. ثم تبدأ رحلة أخرى، حيث يشدّ الرحال إلى البنك، يحمل بيده حقيبة “السامسونايت” الشهيرة بملمسها الصلب وقفلها المعدني اللامع، كانت أشبه بصندوق يحمل أكثر الأسرار غموضًا، وكانت من رموز المسؤولية والثقة. تلك الحقيبة كانت تحتضن رواتب المعلمين والإداريين، والحراس، والعمال، كل من تنبض أروقة المدرسة بأعمالهم وجهودهم.
أما زملاؤنا في المدارس الواقعة خارج العاصمة، فكانوا يتسلّمون رواتبهم من إداراتهم التعليمية – حسب تسميات تلك المرحلة – نقدًا أيضًا، وبواسطة مدير المدرسة نفسه.
وكانت اللحظة الأكثر صعوبة – والأكثر رهبة – حين يحين موعد ما كان يُعرف بـ “التصفية” وهي مجموع الرواتب التي تُصرف عن فترة الإجازة الصيفية، تمتد لأربعة أشهر تقريبًا .
كانت تلك المبالغ أكبر من المعتاد، وغالبًا لا تكفيها حقيبة “سامسونايت” واحدة! وكان لا بد من تكليف من يعين المدير على عدّ النقود، خشية السهو أو الخطأ في استلام وتوزيع الرواتب، لأن الخطأ حينها لا يُغتفر ولا يُصحّح بسهولة.
وما كان ينطبق على التعليم في عملية تسليم الرواتب بالتأكيد كان ينطبق على سائر الوحدات الحكومية الأخرى، كان الوطن في بدايات تنظيمه الإداري والمالي، لكنه كان غنيًا بالقيم والثقة، والمسؤولية النبيلة.
في تلك الأيام، لم تكن الموازنات تُدار بالبرامج، ولا الرواتب تُحوّل بضغطة زر.
وفي ذاك الزمن الذي كانت فيه الرواتب تُحمل في حقيبة، كانت القلوب تحمل الوطن بأكمله. كانت الأيام تمضي ببطء، لكن القيم كانت تسير بخطى ثابتة، واليوم ونحن نعيش في عصر السرعة والتكنولوجيا، لا يسعنا إلا أن نستلهم من تلك الحقبة روحها، ونحملها في قلوبنا كذكرى جميلة تُضيء دروبنا.