أحمد بن علي الشيزاوي
في بلادٍ تشرق الشمس فيها كل صباح على جبالٍ لا تنحني، وسهولٍ لا تبوح إلا بالعطاء، خرج نظام حماية الأجور من رحم الحوكمة الرشيدة، يتشكل في جوهرة كنظام رقابي تنظيمي، يتوشّح عباءة الإصلاح، ويُلوّح براية الامتثال، وينشد أن تُدار سوق العمل لا بالفوضى، بل بالضبط والربط.
جاء كملاكٍ يحمل بشرى: ألا يُظلم عاملٌ بعد اليوم، ولا يُهدر جهدٌ سُكِبَ عرقًا على أرض الكدح. وكان للوزارة دورٌ لا يُنكر؛ إذ حملت هذا النظام على كتفيها جهدًا وإيمانًا، ونثرت التوعية كما ينثر المطر خصبه. فأقامت أكثر من 150 ورشة عمل ومحاضرة في أنحاء السلطنة، لم تترك ولاية إلا وزرعت فيها بذرة فهم، ولا مدينة إلا وألقت فيها خطابًا عن الامتثال.
لكن خلف عباءته اللامعة، كانت الريح تصفر في أروقة المؤسسات الصغيرة، كأنها تقول: ليس كل من نوى الامتثال، أدركه. فهناك في زوايا السوق، حيث البسطاء يكابدون ليُبقوا على الحياة في مؤسساتهم، وقعوا بين سندان النظام ومطرقة التقنية. يدخلون البيانات بأصابع مرتجفة، يتخبطون بين أكواد البنوك وكلمات السرّ، يدفعون الأجور، لكن النظام لا يُحسن الظن، فيُلقي عليهم الغرامات كما تُلقى الأحمال على الجبال.
من قال إن الخطأ في رقم حساب يُساوي مثلبة؟ ومن سوّى بين من امتنع عن الدفع، ومن حاول وسقط في هوة النظام؟ هؤلاء لا يعصون، بل يعانون. يُسددون الرواتب من قوتهم، ثم يُغرمون لأنّ “نظام التحويل” لم يَفهم لهجتهم، أو لأنّ الامتداد المرفق لم يكن متوافقا مع متطلبات النظام ولغته التي يفهم.
لماذا يُكتب الجزاء بلغةٍ لا تقرأ النيّة؟ ولماذا تصمّ الواجهات البرمجية عن صوتٍ يقول: نحن نُريد، لكننا لا نُجيد؟ أما آن للآلة أن تتعلّم من الإنسان؟ أن تُفرّق بين من تهرّب، ومن تعثّر؟ أن تعرف أن للخطأ وجهًا نبيلًا أحيانًا؟ أما آن لمنظومة حماية الأجور أن تبرح أبراجها الإلكترونية، إلى زوايا النوايا الإنسانية التي فيها من يدفع، ثم يُغرم لأنه لم يُدخل الكود بالطريقة الصحيحة؟
هناك حرص بين على إنجاح هذا النظام الذي يحمل في قلبه، ثمّة وعدٌ لم يسلط عليه الضوء كما يليق، لكنه آتٍ لا محالة. فهو لا يحمي الأجر فحسب، بل يكشف خيوط التستر في سوق العمل. فمن خلال رصده الدقيق، سيميز النظام بين العامل الحقيقي، وبين من فُقدت آثاره في زحمة الهروب، أو من يعمل تحت جناح مؤسسة لا تعلم بوجوده، أو من لا حساب له ولا عنوان.
وهنا، تتجلّى إحدى أسمى غايات النظام: إعادة فرز المشهد العمّالي، وفرز الخلل البنيوي في علاقة المؤسسات بالقوى العاملة، وكشف حالات التستر، والعمالة المتسللة، والرواتب الصورية التي تملأ ملفات الرواتب ولا تملأ الواقع.
يا وزارة العمل، كوني أمًّا تحنو، لا مدققا يراقب، وهنا نعود إلى سؤال الحوكمة الأخلاقي: هل ترتدي المؤسسة بشت الدعم أم بشت المحاسبة ففي محراب العمل لا يلبس البشت مرتين، افتحي نوافذ الرحمة على منازل الإرادة، واجعلي لكل خطأ “رجعة”، ولكل مخالفة “فرصة”.
أعيدوا تعريف “المخالف” بأنه من تعمّد، لا من تعثّر. واصنعوا من النظام جسرًا، لا عثرة؛ منصة تُعين، لا قلم يُدين. لأن من يُريد أن يُنصف العامل، لا يُجْهِد رب العمل حتى يئنّ، فأعقد التحديات لا تحل بالأنظمة وحدها، بل بقدرة الجهات على التفرقة بين التصحيح والتقصير، وبين النية الصادقة والتقاعس المتعد.
وتوصيتنا، لا تأتي من فم فقهاء القانون، بل من وجدان مواطن:
نقترح أن يُستبدل “الغرم التلقائي” بالتفاهم الانتقائي” الذي يراعي سياق ظروف كل حالة وظروفها التقنية والمؤسسية، وأن يُمنح المخطئ فرصة شرح، والمحق فرصة تبرير. أن يُلغى من القاموس مصطلح “الغرامة المستمرة”، ويُكتب مكانه: “التصحيح المرحلي” أو “المرافعة التقنية”. لأن الحوكمة العظيمة، هي التي تسمع حتى همسات الميدان، وتُقيم الأداء على نية البناء، لا على سهو التطبيق، وتعرف أن النظام الناجح هو من علّم قبل أن يُحاسب، ومن رافق قبل أن يُغرّم.