الكاتب: خالد محمد عبده
اهتدى الصوفية إلى كثير من المبادئ الروحية السامية التي يمكن أن تحقق للإنسان مبتغاه في علاقته مع الله ومع العالم.. قد تكون هذه العبارة محل اعتراض منذ البداية عند قارئها، نظرًا لارتباط التصوف بالدروشة وما يطرحه الإعلام عن هذه الفئة من كونهم أهل شعوذة ودجل وسحر، أو أهل تواكل وقعود عن السعي وسبب من أسباب التخلف الحضاري! وقد يكون قارئ العبارة من المخاصمين للفكر الصوفي بسبب ما ورثه من مذهبية معينة رأت أن أهل التصوف أصحاب عقائد منحرفة، لكننا لا نبدأ من مسلمات أو موروثات حينما نقرأ أو نكتب عن أحد، ولعل هذا هو مسلك إنسان اليوم، الذي لفظ الموروث لعدم إشباعه لحاجاته، وثار عليه وأراد أن يكوّن وجهة نظره بنفسه من خلال مطالعة وسعي حقيقي.
في هذا المقال سنحاول أن نطرح معنى التصوف -كما نتصوره- وبعض قيمه الإنسانية التي نراها قيمًا صالحة للنظر والتطوير، وهي محل اتفاق من تيارات التصوف في الشرق والغرب، بل هي غاية من غايات كل إنسان أراد أن يشهد الحياة الحقة، وينشر ثقافة الحياة بين الناس.
التصوف أرحب من المذهبية والإيديولوجيات
معنى أن تكون صوفيًّا :
أن تترفّع عن العنصرية والعصبية والخصومات المذهبية، وأن تعرف أن شعار “نحن على الحقّ” الذي يتبعه بالضرورة “ومن سوانا على الباطل ومن أهل الزيغ والضلال” شعارٌ مضللٌ وقاتل لفكرة الإخاء الإنساني، لم تكن الصوفية الكبار وأهل التجارب الإنسانية الثرية يفعلون ذلك! فالحقّ لم يكلّف واحدًا منهم بأن يتحدث باسمه، أو يتكلم نيابة عنه!
شعار الصوفية ليس الحديث باسم ربّ العالمين، بل الحديث معه والإشارة إليه، أما الله سبحانه فقد تحدّث عن نفسه ووصف نفسه بأنه (أكبر، وأوسع، وأرحب، وألطف) من الفرق والايديولوجيات ومن كل شيء (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً ؟ قُلِ اللَّهُ) .. أدرك الصوفية القدامى حقيقة أن (الاختلاف رحمة) وأن كل الألوان وإن تنوعت في صورها وتمثلاتها فهي موصلة إلى الحقّ .. يقول مولانا جلال الدين الرومي في كتابه المثنوي(1)فإن أنت وضعت عشرة مصابيح في مكان واحد، فقد يكون كلٌّ منها مختلفًا في صورته عن الآخر. ولكنك لا تستطيع أن تفرّق بصورة قاطعة بين نور كلٍّ منها إذا نظرت إلى نورها. وأنت إذا عددت مائة من ثمار التفاح ، فإن هذه لا تبقى مائة، بل تصبح واحدة حين تعصرها.
ما يحدث الآن:
يحدث أنك ترى من يدعون أنفسهم صوفية على عكس هذا السلوك، فعقيدتهم هي العقيدة القويمة، وعقائد الآخرين مخالفة لصحيح الدين! هم على الحق وغيرهم على الضلال، هم من يعرفون الله حق المعرفة وغيرهم مشبّهون ومجسّمون وعقائدهم فاسدة، ويجب التنبيه على ضلالهم، إذا كان من الصوفية القدامى من نأى بنفسه عن هذا السلوك فأولى بك ألا ترى التصوف بعيون هؤلاء وتعرّف عليه من خلال تجربة إنسانية حقيقية لم تتعصب أو تتحزب ضد فئة من البشر، بل تسعى للكل باسطة يدها أن “تعال تعال .. لا يهم من أنت ولماذا أتيت؟!”
كان قلب مولانا جلال الدين الرومي كبيرا حينما تعلّم من القرآن ومن تجربة النبي الأكرم أن يستفيد من تراث السابقين، وينشد الحكمة في مظانها، غير متعلق بصورة أو رسم، فناشد بعدها الجميع أن “تعال لا يهم من أنت” تعال لتتعالى عن كل زائف.. عن كل بهرج خدّاع ، حتى إن كرر لسانه اسم الحق ورسمت على جبهته صورة التقوى .. تعال عن كل ما يبعدك عن إنسانيتك ويجعل رسم قلبك بعيد عنك وعن كل بذرة آدمية حيّة.
كان عقل محمد إقبال(2) متعلقا بمشكاة الأنوار المحمدية، حينما ذهب إلى بلاد الأنوار الغربية فهم أن رسالة ختم النبوة إعلان ميلاد العقل المكتمل، الذي لم يعد في حاجة إلى شيخ أو ملا أو مدرس، يتعلق في رقبته طيلة عمره .. ظنّ ظنًّا حسنا ونَقَد ما رأه من كسلٍ وأمراض وأشاد بما شاهده من حركة وتجدّد وتطوير ..
كان الظنُّ حسناً والفعلُ دليل حياة .. لكنّ الأحياء أضحت تقدّس وتدنّس.. تشجب وتندد .. تفكك وتهدم .. تراقب كل حركة لتبني أمامها الأسوار وتغرس الأوتاد الحديدية في ظهر كل من ترجو الحياة من مائه أن يتحرك.
الصوفية والتوكّل
معنى أن تكون صوفيًّا:
إن التصوف لا يعني السلبية والتنكّر للواقع! إن سلبية التصوف فكرة مغلوطة .. ظهرت بسبب فهم خاطئ لمقولات الصوفية كانت قراءتها بعين المخاصم للتصوف أو المطالع لأدبياتهم بعين غريبة .. وبصورة خاصة ما قيل عن التوكل والفناء.. فأكثر الصوفية الكبار وأصحاب التجارب على أن التوكل حالة للنفس الراضية التي تسلّم قلبها إلى ربها في كافة أمورها، فلا يكون لشؤون الدنيا سلطان على القلب يجعل الإنسان أسيرا لكل طارئ ومتغيّر ؛ فيحوّل بسط قلبه إلى قبض وتوتر دائم، يصرفه عن الأولى والأهم. فالتوكل عندهم لا ينافي السعي في الحياة، بل إن مشاركتهم في الواقع الدنيوي وعلوم عصرهم تؤكد أن السعي مطلوبٌ والطعنُ فيه خطيئةٌ. يقول القشيري في الرسالة(3)التوكّل محلّه القلبُ، والحركة بالظاهر لا تنافي التوكل بالقلب. ويقول مولانا جلال الدين الرومي: إن لك يدين فكيف تخفي أصابعك .. إن لك ساقين فكيف تجعل من نفسك كائنا أعرج؟!
معنى أن تكون صوفيًّا:
بعد أن كان الإنسان يضرب خيمته في سمّ الخياط ولا يجد مخرجا أو فكاكا من حاله .. يولّي ظهره للعالمين كليهما ولا يلتفت إلى المزعجات التي لا تنتهي .. ليعرج في مئة عالم جديد .. ليتعرّف على كنزه المخفي الغائب.. الكنز الذي ينكشف له بألف ألف وجه بعدد أنفاسه .. وعندما يسترد نفْسه فلن يأسى على شيء .. فأعظم الأشياء معه .. ومن أدرك نفسه وحاجتها .. عرف مقصوده وربه!
معنى أن تكون صوفيًّا :
أن ترجو الخير للبشرية كلها دون إقصاء لفريق أو مذهب أو جماعة من الناس، وإن خالف فكرهم ما تؤمن به أو تدعو إليه.. فالصوفي يؤمن بالوحدة ولا يعتقد في التفريق .. البشر جميعا ينصهرون في جسد واحد .. وما يصيب أحدهم يؤلمه.. يدعو مولانا جلال الدين الرومي للبشرية قائلا: يا ربنا! أنزل على هذا العالم الماء الطهور ، حتى تصبح جملة ناره نورًا. وفي هذا المعنى يقول سعدي الشيرازي في كتابه حديقة الورد: بنو آدم جسدٌ واحدٌ .. إلى عنصر واحد عائد .. إذا مسّ عضوا أليم السقام.. فسائر أعضائه لا تنام .. إذا أنت للناس لم تألم.. فكيف تسمّيت بالآمي.
الصّوفيُّ هو المُسافرُ فِي المَعْنَى!
الصّوفيُّ يخلقُ اللغة خلقًا جديدًا، فهو وإن آمن بالسرمدية والخلق القديم، إلا أنه لا يرضخ لكلمات وعبارات يشملها قاموس المعجميين، فهناك قبل الكلمة حرفٌ، وللحرف ألف ألف معنى، وإن عبّر الحرف عن صورة المعنى، فهناك من (المواقف) و(المخاطبات) و(المشاهدات) ما لا يُعبّر عنه بـ(حرف) ولا (ينقال)! كـ(لوحة) فنان بديعة عاش صاحبها ما رسمه واقعًا، وصارت رمزًا يحتمل آلاف القراءات من ناظريه.
الصّوفيُّ هو المشغول بنفسه وعللها وأمراضها، بغية علاجها والترقّي بها في مدارج الكمال، شُغل الصّوفي بكل تفصيلة دقيقة أو أمر فرعيّ من شأنه أن يعكّر صفو حياته، أو يعوق مسيرة تقدّمه في هذه الحياة، وآمن الصّوفيُّ أنه كلما ازداد قربًا من نفسه، اقترب من ربّه، وكلما عرف نفسه عرف ربّه، ومن العلم البشري والعلم الإلهي تكتمل معارفه بهذه النفس!
ولو قارنّا ما يقول الصوفي عن النفس قديمًا بما يقوله علماء النفس اليوم عنها، لأدركنا أن من أهل التصوف من كان على دراية بطبّ القلوب الذي نحن في أمس الحاجة إليه اليوم، ولو أفدنا منهم لغنمنا الخير الكثير.
وما يحدث للصوفية في حال اللقاء والحضرة والإلهام لا يمكن وصفه بجميع اللغات، وإن كان للصوفية دور في تطور اللغات بأن خلقوا لسان غير الألسنة المعروفة يسميه البعض بلسان المحبة والجمال، إلا أن هذا اللسان يعجز عن التعبير كما تعجز الأرض عن احتمال مياه الطوفان والسيول فتغرق.. ويمكن تسمية هذا الغرق بالغرق اللذيذ الذي يستمتع به الصوفي أيّما استمتاع ويشعر بنشوة لا يمكن أن يشترك معه فيها سوى أهله وأمثاله .. يخبرك الفنان برسمه وألحانه عن بعض هذه النشوة وهذا الشعور.. لكنك لا تعي ما يقول دون أن تحيا مثل هذه الحياة!.
المصادر:
1-للتعرّف على كتاب المثنوي وكتابات مولانا جلال الدين الرومي يمكنك أن تطالع هذا المقال: http://tawaseen.com/?p=3169.
2-عن محمد إقبال: سيرته وفلسفته وشعره يمكنك أن تطالع ما كتبه عبد الوهاب عزّام تحت هذا العنوان، وهو أول كتاب عربي، أراد من خلاله أن يعرّف القارئ في بلادنا بمحمد إقبال وإنتاجه الشعري.
3-الرسالة القشيرية هي موسوعة صوفية فيها كل ما يهم القارئ للتعرف على الصوفية، شخصيات وأعلام ومصطلحات وأفكار ونصوص صوفية تعبر عن رؤى الصوفية السابقين.