الكاتب: بدر بن سالم العبري
إخوان الصّفا وخلان الوفا حار حولهم الباحثون قديما وحديثا، فمنهم من نظر إليهم على أنّهم جماعة إصلاحيّة بثت رسائل غير موقعة باسم معين بلغت اثنتين وخمسين رسالة، هدفها نشر الوعي حسب الوسيلة المتاحة، ومنهم من رآهم جماعة فلسفيّة تأثرت بالفلسفة اليونانيّة والفارسيّة والهنديّة، وبعضهم جعلهم جماعة باطنيّة إسماعيليّة، ومنهم من رأى غير ذلك.
ظهرت هذه الجماعة في القرن الثّالث الهجريّ والعاشر الميلاديّ بالبصرة، واهتمت بالفلسفة والرّياضيّات والفنّ والفلك والسّياسة، ويذكر رشيد الخيون [معاصر] أنّ أبا حيان التّوحيديّ [ت 414هـ] لمعاصرته لهم شخص بعض أسمائهم، فذكر منهم زيد بن رفاعة [ت بعد 400هـ] وأبو سليمان محمد بن معشر البيتسي [ت؟]، وأبو الحسن علي بن هارون الزّنجانيّ [ت؟]، وأبو أحمد المهرجانيّ [ت؟]، وغيرهم حيث ذكر أنّ عددهم عشرة، وأنّ جماعتهم تصافت بالصّداقة، واجتمعت على القدس والطّهارة والنّصيحة.
ويرى التّوحيديّ كما ينقل عنه رشيد الخيون أنّ فلسفة إخوان الصّفا تكمن في أنّ الشّريعة قد دنست بالجهالات، واختلطت بالضّلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة؛ لأنّها حاوية للحكمة الاعتقاديّة، والمصلحة الاجتهاديّة، وأنّه متى ما انتظمت الفلسفة اليونانيّة والشّريعة العربيّة فقد حصل الكمال.
وينقل الخيون عن مصطفى غالب [ت 1981م] من الطّائفة الإسماعيليّة، ومحقق كتاب الرّسالة الجامعة المختلَف في نسبتها، قال في مقدّمته أنّه لا يخفى بأنّ جماعة إخوان الصّفا وخلان الوفا عمدوا عند وضع رسائلهم موضع التّداول إلى إحاطة أنفسهم بهالة من الكتمان والتّقية، وتعمّدوا عن قصد إلى إخفاء أسمائهم عن عامّة النّاس زهدا في الشّهرة، وحرصا على حياتهم المهددة.
ورسائل إخوان الصّفا تنقسم إلى أربعة أقسام، تضمن القسم الأول الرّياضيّ التّعليميّ الفلسفيّ، وفيه أربع عشرة رسالة، وتضمّن القسم الثّاني الجسمانيّ الطّبيعيّ، وفيه سبع عشرة رسالة، والقسم الثّالث النّفسانيّ والعقليّ، وفيه عشر رسائل، والقسم الرّابع النّاموسيّ الإلهيّ، والشّرعيّ الدّينيّ، وفيه إحدى عشرة رسالة، بعدها يأتي الرّسالة الجامعة، غير مضمنة في كتاب الرّسائل، وهي عبارة عن ملخص لكلّ ما حوته الرّسائل من علم وفنّ.
أمّا من حيث موضوع بحثنا فالرّسالة الخامسة من القسم الرّياضيّ كانت عن الموسيقى، وفيها بينوا أنّ الموسيقى هي الغناء، والموسيقار هو المغنيّ، والموسيقات هو آلة الغناء، والغناء هو ألحان مؤلفة، واللّحن هو نغمات متواترة، والنّغمات هي أصوات متزنة، والصّوت هو قرع يحدث في الهواء من تصادم الأجسام بعضها ببعض.
وأشاروا إلى أنّ صناعة الموسيقى استخرجها الحكماء [الفلاسفة] بحكمتها، وتعلّمها النّاس منهم، واستعملوها كسائر الصّنائع في أعمالهم ومتصرّفاتهم بحسب أغراضهم المختلفة.
وذكروا من الأسباب الّتي دعت الحكماء إلى وضع النّواميس، واستعمال سننها، هو ما قد لاح لهم من موجبات أحكام النّجوم من السّعادات والمناحس، عند ابتداء القرانات، وتحاويل السّنين من الغلاء أو الرّخص أو الجدْب أو الخصب، أو القحط أو الطّاعون والوباء، أو تسلّط الأشرار والظّالمين، وما شاكلها من تغيرات الزّمان وحوادث الأيام، فلمّا تبين لهم ذلك طلبوا حيلة تنجيهم منها إن كانت شراً، وتوفر حظهم فيها إن كانت خيراً، فلم يجدوا حيلة أنجى، ولا شيئاً أنفع من استعمال سنن النّواميس الإلهيّة الّتي هي الصّوم والصّلاة والقرابين والدّعاء عند ذلك بالتّضرع إلى الله تعالى – جل ثناؤه – بالخضوع والخشوع والبكاء والسّؤال إياه أن يصرف عنهم ذلك، ويكشف ما قد أوجبته أحكام النّجوم من المناحس والبلاء، وكانوا لا يشكون أنّهم إذا دعوا الله بالنّية والإخلاص، ورقة القلب والبكاء والتّضرع والتّوبة والإنابة أن يصرف عنهم ما يخافون، ويكشف عنهم ما هم مبتلون به، ويتوب عليهم، ويغفر لهم، ويجيب دعاءهم، ويعطيهم سؤالهم، فكانوا يستعملون عند الدّعاء والتّسبيح والقراءة ألحانا من الموسيقى تسمى “المحزن”، وهي الّتي ترقق القلوب إذا سُمِعَت، وتبكي العيون، وتكسب النّفوس النّدامة على سالف الذّنوب، فهذا كان أحد أسباب استخراج الحكماء صناعة الموسيقى واستعمالها في الهياكل وعند القرابين والدّعاء والصّلوات.
وكانوا أيضا قد استخرجوا لحنا آخر يقال له “المشجع” كانت تستعمله قادة الجيوش في الحروب والهيجاء، يكسب النّفس شجاعة وإقداما.
واستخرجوا أيضا لحنا آخر كانوا يستعملونه في المارستانات [أي المستشفيات] وقت الأسحار يخفف ألم الأسقام والأمراض عن المريض، ويكسر سورتها، ويشفي من كثير من الأمراض والأعلال.
واستخرجوا أيضا لحنا آخر يستعمل عند المصائب والأحزان والغموم في المآتم، يعزي النّفوس، ويخفف ألم المصائب، ويسلي عن الاشتياق، ويسكن الحزن.
واستخرجوا أيضا لحنا آخر يستعمل عند الأعمال الشّاقة، والصّنائع المتعبة، مثل ما يستعمله الحمالون والبناؤون وملاح الزواريق وأصحاب المراكب، يخفف عنهم كدّ الأبدان، وتعب النّفوس.
واستخرجوا أيضا ألحانا أخر تستعمل عند الفرح واللّذة والسّرور في الأعراس والولائم.
ومنه ما يستعمله الجمالون من الحداء في الأسفار، وفي ظلم اللّيل لينشط الجمّال في السّير، ويخفف عليها ثقل الأحمال، ويستعملها رعاة الغنم والبقر والخيل عند ورودها الماء من الصّفير ترغيبا لها في شرب الماء، ويستعملون لها أيضا ألحانا أخر عند هيجانها للنّزو والسّفاد، وألحانا أخر عند حلب ألبانها لتدر، ويستعمل صياد الغزلان والدّراج والقطا وغيرها من الطّيور ألحانا في ظلم اللّيل يوقعها بها حتى تؤخذ باليد، وتستعمل النّساء للأطفال ألحانا تسكن البكاء وتجلب النّوم.
ويرون أنّ الموسيقى من الصّناعات، إلا أنّ كلّ صناعة تُعمل باليدين فإنّ الهيولى [أي الأصل أو المادّة الّتي لا صورة لها] الموضوعة فيها إنّما هي أجساد طبيعيّة، ومصنوعاتها كلّها أشكال جسمانيّة، إلا الصّناعة الموسيقيّة، فإنّ الهيولى الموضوعة فيها كلّها جواهر روحانيّة، وهي نفوس المستمعين، وتأثيراتها فيها مظاهر كلّها روحانيّة أيضا، ولها في النّفوس تأثيرات كتأثيرات صناعات الصّناع في الهيولات الموضوعة في صناعتهم، فمن تلك النّغمات والأصوات ما يحرّك النّفوس نحو الأعمال الشّاقة، والصّنائع المتعبة، وينشطها ويقوّي عزيمتها على الأفعال الصّعبة المتعبة للأبدان، الّتي تبذل فيها مهج النّفوس وذخائر الأموال، وهي الألحان المشجعة الّتي تستعمل في الحروب، وعند القتال في الهيجاء، ولا سيما إذا غنّي معها بأبيات موزونة في وصف الحروب، ومديح الشّجعان.
ولهم مباحث عديدة في الموسيقى والألحان وأصول الألحان وقوانينها، فيرون أنّ قوانين الغناء والألحان ثلاثة أصول: وهي السّبب والوتد والفاصلة، فأمّا السّبب فنقرة متحركة يتلوها سكون مثل قولك: تن تن تن تن، ويكرر دائما، والوتد نقرتان متحركتان يتلوهما سكون مثل قولك: تنن تنن تنن تنن يكرر دائما، والفاصلة ثلاث نقرات متحركة يتلوها سكون مثل قولك: تننن تننن تننن تننن، فهذه الثّلاثة هي الأصل والقانون في جميع ما يركب منها من النّغمات، وما يركب من النّغمات في جميع اللّغات من الألحان، وما يتركب منها من الغناء في جميع اللّغات.
كذلك تطرقوا لطبقات الصّوت، وأصل الآلات وأنواعها وأقسامها، وفي كيفية صناعتها وإصلاحها، وفي القوّة السّامعة للأصوات، وفي امتزاج الأصوات وتنافرها، وفي تأثر الأمزجة بالأصوات، وفي حركات الأفلاك وأنّ لها نغمات كنغمات العيدان، وفي حقيقة نغمات الأفلاك، وتحدثوا عن الكلام والأشعار إذا كان ملحنا موسيقيّا وأثره على السّامع، وفي تناسب أعضاء الإنسان على الأصول الموسيقيّة، وفي ذكر المربعات أي الرّبيع والصّيف والخريف والشّتاء، وما شاكلها من بروج، وهكذا في الطّبائع، وأثر ذلك على النّفوس.
وأخيرا تطرقوا إلى الانتقال من طبقات الألحان، وفي نوادر الفلاسفة في الموسيقى، وفي تلوّن تأثيرات الأنغام وفي اللّذة المترتبة عليه، وما أسلفنا الحديث حوله كان بصورة عامّة في فترة مبكرة جمعت بين التّأثر بالأمم الأخرى، مع دمجها بالثّقافة العربيّة والإسلاميّة إن صح التّعبير.
يتبع الحلقة [السّادسة والعشرون] ………………..
الهامش
[1] للمزيد ينظر: رسائل إخوان الصّفا وخلان الوفا، ط مؤسسة الأعلميّ للمطبوعات، ط 1426هـ/ 2005م، بيروت/ لبنان، الرّسالة الخامسة من القسم الرّياضيّ في الموسيقى، ج: 1، ص: 157 -204.
ولترجمته ينظر: الخيون: رشيد؛ آراء إخوان الصّفا وخلان الوفا: إعجاب وعجب، كتاب مجلّة العربيّة، 193، الرّياض، 1434ه؛ وينظر: الموسوعة العالميّة ويكبيديا، تأريخ الزّيارة: الثّلاثاء: 20 فبراير 2018م، السّاعة السّابعة صباحا.