زكريا بن عامر بن سليمان الهميمي.
*تمهيد:
تناولنا في الجزء الأول القراءة الأولى: مفاهيم عامة حول الإسراف بمعناه اللغوي والاصطلاحي، وتحليل ارتباط ظاهرة الإسراف بمجموعة من العلوم المختلفة، وتتناول هذه الصفحات في الجزء الثاني منها القراءة الثانية: أسباب سلوك الإسراف لدى الفرد والجماعة، حيث أن سلوك الإسراف له عدة أسباب متعددة ذات منشأ نفسي، أو سلوكي، أو تربوي، أو اجتماعي، أو اقتصادي.
ينشأ سلوك الإسراف لدى البعض نتيجة لعدة عوامل، ونجيب في هذه القراءة على السؤال الرئيس التالي: لماذا يسرف الفرد أو الجماعة في المجتمع؟ والإجابة تكمن في استنتاج عدد من الأسباب ذات العلاقة بطبيعة الفرد والبيئة المحيطة به، ونلخص بعض تلك الأسباب كالتالي:
1- غياب الوازع الديني المتعلق بنمط الاعتدال:
يميل الأفراد والجماعات الملتزمون بالقيم الدينية الصحيحة من خلال تبنيهم للمعتقد الديني إلى سلوك نمط الاعتدال من خلال فهمهم الدقيق والصحيح للقيم الدينية ذات العلاقة بالحض على سلوك التوسط الاعتدال، وتطبيق ذلك السلوك تطبيقا عمليا في واقع الحياة، كما يميل الفرد والأسرة المتمسكين بالقيم والمثل الدينية العليا إلى نبذ السلوكيات غير الأخلاقية التي يتسم بها الإسراف والتي تنهى وتحذر منها الشرائع السماوية بصفتها أفعال بشرية غير أخلاقية مجاوزة لحدود التوسط والاعتدال.
فالتدين الصحيح المبني على اعتقاد صحيح يكون بالإيمان بقيمة الاعتدال بذاتها ثم تطبيق تلك القيمة كواقع عملي ملموس حي يظهر في التصرفات المشاهدة في بيئة الفرد، وعلى النقيض من ذلك فغياب الوازع الديني الذي يترتب عليه ضعف القيم الأخلاقية المرتبطة بمبدأ الاعتدال والتوسط سبب في سلوك الإسراف، فالدين- بما يحويه من قيم أخلاقية سامية قائمة على مبدأ أخلاقي نبيل هو التوسط والاعتدال- عبارة عن قوانين أخلاقية وقواعد سلوكية عامة الغرض منها ضبط السلوك وتوجيهه وجهة سليمة تحقيقا لمقاصد وغايات دينية وأخلاقية سامية.
2- غياب التربية الأخلاقية الصحيحة المتعلقة بنمط الاعتدال:
تلعب التربية في مرحلة الطفولة وما بعدها من مراحل عمرية دورا رئيسا في نشأة الفرد على قيم التوسط والاعتدال من خلال القدوة الحسنة، والتوجيه والنصح من الأبوين وبقية أفراد الأسرة بغرض تغيير السلوك السلبي للسلوك الإيجابي، ودعم السلوكيات الأخلاقية القائمة على مبدأ التوسط والاعتدال في المعيشة.
وعلى النقيض من ذلك فتربية الفرد في الأسرة منذ نعومة أظافره على الإسراف كصفة أخلاقية متطرفة في جدول الأخلاق، واللامبالاة في الإنفاق كنمط من أنماط نشأة الفرد الاجتماعية وتربيته الأخلاقية يجعل الفرد ينمو ويتربى على حب الإسراف والبذخ والتبذير بلا حساب، صفة الإسراف كصفة أخلاقية متطرفة وسلبية تنعكس سلبا على مراحل نمو الفرد المختلفة وعلى صحته النفسية والجسمية، وصدق الشاعر حينما قال:
وينشأ ناشئ الفتيان فينا * على ما كان عوده أبوه
3- غياب مفهوم محدد ودقيق لفكرة الإسراف:
إن بعض الأفراد في المجتمع ليس لديهم تعريف أو تصور واضح مبني على أسس دينية وعلمية ومنطقية وواقعية ذات حس سليم لمفهوم الإسراف في العقل الواعي، فعلى سبيل المثال: فارتفاع معدل الدخل لدى أحد الأفراد مقارنة بغيره من أفراد المجتمع من ذوي الدخل المنخفض هو مبرر قوي لدى ذلك الفرد لسلوك الإسراف، فلا مشكلة لدى ذلك الفرد من ذوي الدخل المرتفع حسب تصوره الخاطئ من ارتفاع معدله الاستهلاكي بشكل مبالغ فيه لأنه يمتلك دخلا يفوق ما ينفقه بكثير.
4- تدني المستوى التعليمي والثقافي:
إن تفشي الجهل والأمية وضعف المستوى الثقافي للفرد وللأسرة قد يؤدي إلى ظهور عادات اجتماعية سيئة تتسم بالإسراف نتيجة لتجاهل النتائج السلبية المترتبة على سلوك الإسراف مقارنة بعالم الحياة المعرفية المبنية على التعليم والثقافة للأفراد والأسر التي تقي فكريا من سلوك الإسراف السيء.
فيلاحظ على سبيل المثال أن الأسر ذات المستوى الثقافي أو التعليمي المتدني بشكل عام يسود فيها نمط الإسراف والتبذير مقارنة بغيرها من الأسر ذات المستوى الثقافي والتعليمي الجيد، فتطبيق العلم والثقافة الصحيحة في واقع الحياة يؤدي إلى وعي تلك الأسر بالأضرار السلبية المترتبة على سلوك الإسراف، ومن جانب آخر فالعلم والثقافة تبصران تلك الأسر بإيجابيات سلوك منهج التوسط والاعتدال فيسود لدى تلك الأسر نمط مضاد لنمط الإسراف، إضافة إلى أن التعليم الجيد والثقافة المستنيرة تجعل الفرد أو الأسرة قادرة على وضع استراتيجيات فعالة وصحيحة لضبط مجال الانفاق، والاتجاه نحو استراتيجيات الادخار والاستثمار.
5- ازدياد معدل دخل الفرد دون وجود ضوابط للإنفاق:
هناك معادلة اقتصادية ترى أنه عندما يرتفع معدل دخل الفرد ومستواه المعيشي، يزداد التوسع في الاحتياجات الأساسية المعيشية لدى بعض الأفراد، كما قد يزداد مع ارتفاع مستوى دخل الفرد كذلك اقتناء الكماليات ولو على حساب الضروريات.
وازدياد معدل دخل الفرد ليس مبررا لسلوك الإسراف كما يظن البعض، لأن دخل الفرد معرض للانقطاع أو للانخفاض في أي وقت نتيجة للعديد من العوامل الطارئة التي قد تكون خارجة عن إرادة الفرد نفسه ، فالأزمات المالية والاقتصادية على صعيد الفرد أو صعيد الدولة أو على الصعيد العالمي، والكوارث الطبيعية ، والحروب ، وإفلاس بعض المؤسسات أو الشركات المشغلة للعمالة التي تضطر إثرها لتسريح تلك العمالة المنتجة، والإصابة أثناء ممارسة الفرد للعمل ، والمرض المفاجئ ، كلها عوامل سلبية قد تسهم في إلغاء أو انخفاض مستوى دخل الفرد ، فانعدام أو انخفاض دخل الفرد قد يحصل في أي لحظة في عالمنا وواقعنا المعيشي الذي يتسم بالتحول والتقلب الاقتصادي المتسارع والمفاجئ ، لذا وجب على كل من الفرد والأسرة والمجتمع التوسط والاعتدال في الإنفاق مع ضرورة تطبيق مبدأ الادخار المالي لموجهة الأزمات الطارئة في المستقبل حتى ولو كان لدى الفرد أو الأسرة أو المجتمع مستوى دخل مرتفع.
6- التقليد الأعمى الذي يؤدي للإسراف:
يلجأ بعض الأفراد أو الأسر من ذوي الدخل المنخفض أو المتوسط بسبب تحكيم العواطف المندفعة إلى سلوك الإسراف حتى ولو أدى بهم ذلك السلوك السلبي إلى الاقتراض والوقوع في براثن الديون محاكاة للأفراد وللأسر ذات الدخل المرتفع في المجتمع بدعوى التنافس المادي مع بعض الأفراد أو تلك الأسر، وكأن سلوك الإسراف هو نوع من أنواع الصراع النفسي بين الأفراد أو الأسر من ذوي الدخل المنخفض ضد الأفراد والأسر من ذوي الدخل المرتفع.
ومن أبرز الأمثلة على التقليد الأعمى في مجال الإسراف في مجتمعاتنا الحديثة ظاهرة تنافس بعض الأسر في المغالاة في مستوى المهور نتيجة تقليد بعض الأسر الأخرى التي طلبت من الزوج أو من أسرته منح ابنتهم مهرا كبيرا، فالتقليد الأعمى يسبب ظاهرة غلاء المهور في المجتمع وما يترتب على تلك الظاهرة من ظواهر أخلاقية واجتماعية سلبية، إضافة إلى محاكاة وتقليد بعض أفراد المجتمع لغيرهم في المبالغة في إقامة حفلات الزواج المكلفة ماليا وماديا، وإقامة الولائم للأعراس بطريقة تتسم بطابع الإسراف والتبذير بلا تدبر ولا تفكر ولا بصيرة ، وبلا إدراك للعواقب المالية السلبية لما بعد الزواج ، والآثار السلبية المترتبة جراء الإسراف والتبذير على مستقبل الحياة الزوجية.
كما قد ينتج التقليد الأعمى الذي يؤدي لسلوك الإسراف نتيجة لمشاهدة بعض المسلسلات والأفلام في القنوات الفضائية أو في وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، أو في اقتناء الصحف والمجلات والمنشورات الإعلانية التي تروج لنمط من الحياة تسوده مظاهر الإسراف والتبذير والترف والبذخ الشخصي المادي، تحقيقا لفكرة النموذج الكمالي للبشر في الحياة وتحقيقا لفكرة الحياة المثالية البعيدة كل البعد عن الحقيقة الواقعية، فيقع المشاهد أو القارئ أسيرا لما يشاهده أو يقرأه، فيقوم بتطبيق سلوك الإسراف والبذخ والتبذير في واقع حياته تطبيقا عمليا، ويقلده تقليدا أعمى دون تدبر وبلا بصيرة اعتقادا منه بأن ما يشاهده أو يقرأه يمثل واقع الحياة الصحي السليم للإنسان.
7- الحرمان المسبق أثناء عملية التنشئة الاجتماعية:
تلعب الخبرات السلبية السابقة التي حصلت للفرد في الزمن الماضي دورا مهما في تكوين وتشكيل سلوك الإسراف لدى الفرد في المستقبل كنوع من التعويض الذي نتج عن الحرمان في الماضي، فعلى سبيل المثال: فالطفل الذي نشأ في أسرة فقيرة، ثم تغير حاله من الفقر إلى الغنى بعد مدة بسبب بعض العوامل، قد يميل إلى سلوك الإسراف عندما يكبر كتعويض عن الحرمان المسبق في الماضي، وإظهارا بأن هناك تغير كبير في نمط معيشته يختلف اختلافا كبيرا عما ألفه في طفولته ، وكذلك فإن نشأة الفرد في بيئة فقيرة ثم التحول بعدها إلى بيئة غنية قد يقوده ذلك لسلوك الإسراف لينسى حياة الحرمان وشظف العيش التي عاشها في بيئته و حياته السابقة.
8- مجاراة ثقافة المجتمع الاستهلاكية الخاطئة:
عندما تسود الثقافة الاستهلاكية في أوساط المجتمع، فإنها تصبح مستساغة لدى جموع الناس في العقل الجمعي، فلا مناص من مجاراة تلك الثقافة لدى بعض الأفراد أو الأسر.
فقد تسود لدى بعض أفراد المجتمع عادات شرائية سيئة منها التركيز على شراء أنواع محددة من الأطعمة حتى في حال ارتفاع أسعارها- كشراء نوع من الخضار و الفاكهة الغالية الثمن – وعدم استبدالها ببدائل أخرى من الخضروات والفواكه الأخرى، والتركيز على شراء بعض الوجبات السريعة لاحتوائها على شكل وطعم مميزين بالرغم من افتقار تلك الوجبات السريعة للقيمة الغذائية الجيدة وتسببها في كثير من الأمراض، وكذلك شراء سلع وكماليات لا ضرورة ماسة لها ولكن بسبب شكلها الجذاب وألوانها الأخاذة حيث يقبل الكثير من أفراد المجتمع على شراء تلك المنتجات محاكاة لثقافة المجتمع العامة والبيئة المترفة التي يعيشون فيها بحيث لا يبقى لدى الفرد مجال للتفكر والتأمل الذاتي الشخصي في ذلك السلوك فتتماهى رغبات الفرد المادية مع رغبات المجتمع المادي المحيط حوله بل ضوابط وبلا قيود فكرية أو أخلاقية.
إن مجاراة ثقافة المجتمع الاستهلاكية حتى تصبح مقبولة ومستساغة لدى جمع من أفراد المجتمع دون تفكر وتدبر قائم على التخطيط السليم للإنفاق هو مفهوم اقتصادي خاطئ نظرا لتباين معدلات دخل الفرد الواحد في المجتمع، فيلعب ضعف القدرة على اتخاذ القرار واستقلاليته لدى الفرد في هذه الحالة دورا مهما في انتشار سلوك الإسراف في المجتمع بناء على المعايير الاقتصادية والاستهلاكية المجتمعية الخاطئة.
9- الرغبة النفسية لاقتناء الجديد من السلع والخدمات بلا ضوابط:
تتميز بعض الشخصيات بميول تجاه التغيير، فتطمح للحصول على كل ما هو جديد في عالم البيع والشراء – وهو ما يمكن تسميته بمصطلح ” هوس التسوق” – كنوع من تجديد نمط الحياة المستمر في التغير نتيجة لعملية الحراك الاجتماعي، والتطور المادي، والتفاعل البشري الذي تمر به المجتمعات المتمدنة الحديثة.
وبالرغم من أن عملية التجديد والتغيير هي ظاهرة إيجابية وصحية في حد ذاتها، لكنها يجب أن تكون مقننة وفقا لحجم دخل الفرد، ومدى حاجته الفعلية لاقتناء تلك السلعة.
إن الرغبة في اقتناء الجديد هي في حقيقة أمرها تنبع من ذات الفرد نتيجة لدافعية داخلية ذاتية لديه، كما أن العوامل أو الدوافع الخارجية كالإعلانات التجارية الموجهة والمبرمجة نفسيا تلعب دورا مهما في التشجيع على اقتناء الجديد بلا ضوابط أو قيود أو حدود مادية.
” فالمستهلك المعاصر صار أكثر طلبا ، وأكثر ولعا بكل ما هو جديد في عالم السلع ، فهو يطالب المنتجين كل يوم بشيء ما جديد، وإذا ما تأملنا عالم التجارة اليوم، فسنرى أن ما يتصدر الأسواق في شتى المجالات هي تلك الشركات التي تنجح أكثر من غيرها في تلبية متطلبات المستهلكين، من خلال التجديد المتواصل والتنويع المتزايد لتشكيلة سلعها، تلك الشركات هي الأكثر سرعة في مجاراة التبدل في رغبات المستهلكين وأذواقهم، وبالتالي دراسة التحولات في سلوك المستهلك، ومن ثم طرح السلع المرغوبة في السوق، وإيصالها إلى المستهلك بأسرع الطرق وأقصرها، لقد أصبح التسارع الهائل في وتيرة الإنتاج والاستهلاك سمة رئيسية من سمات الاقتصاد المعولم، الاقتصاد ما بعد الصناعي، اقتصاد المعرفة، وثورة المعلوماتية وتكنولوجيا الاتصالات ” (1).
10- الاضطرابات النفسية لدى الفرد:
قد تكون الرغبة في اقتناء كل ما هو جديد من السلع والمنتجات الاستهلاكية والخدمات بلا قيود أو ضوابط اقتصادية ذات منشأ نفسي أو اجتماعي يرتبط باضطراب الشخصية واضطراب الحياة الاجتماعية للفرد.
فالفرد نتيجة لشعوره بالقلق العام، أو الاكتئاب، أو الوسواس القهري وغيرها من الاضطرابات النفسية الأخرى قد يلجأ في كثير من الأحيان إلى التغيير في نمط المعيشة بشكل مفرط بلا مراعاة لمستوى دخله المادي الفعلي، وبلا مراعاة لمدى حاجته لهذه السلعة أو تلك، فالفرد الذي يسرف في استهلاك كميات كبيرة من الطعام أثناء الأكل مثلا قد يكون سلوك الإسراف لديه ناتج عن اضطراب نفسي يعاني منه.
11- الخلافات الأسرية داخل محيط الأسرة:
قد تلعب الخلافات الأسرية والاجتماعية وحالات التفكك الأسري والطلاق والعنف الأسري دورا في سلوك الإسراف، ومن بين تلك الخلافات الأسرية سوء العلاقة بين الزوجين التي تتسم بعدم التوافق والانسجام النفسي والعاطفي والاجتماعي بينهما، فعلى سبيل المثال: قد يقوم الزوج أو قد تقوم الزوجة أو كلاهما باتباع أنماط استهلاكية مبالغ فيها تتسم بالإسراف والتبذير نتيجة لفقدانهما عامل الشعور بالأمن النفسي والعاطفي في علاقتهما الزوجية تعويضا وانسحابا عن واقعهما المؤلم المتسم بالضغوطات النفسية والأزمات العاطفية.
12- الأزمات المجتمعية الحادة:
إن الأزمات والصدمات المجتمعية، والمشاكل الاجتماعية الكبيرة في المجتمع المحيط للفرد، وعدم قدرة الفرد على التكيف مع البيئة المجتمعية التي يعيش فيها قد تدفعه للتقوقع مع ذاته والانسحاب إلى عالم مادي أخر يتسم بالإسراف والتبذير تعويضا عن فقدان العلاقات الاجتماعية الصحيحة في ذلك المجتمع.
13- الإفراط في حب الذات:
قد ينتج سلوك الإسراف في بعض الأحيان عن الأنانية والتقوقع حول الذات النفسية، مما قد يؤدي إلى تجاهل مشاعر الآخرين وأحاسيسهم كتجاهل مشاعر البؤساء والمحرومين والمعوزين في المجتمع الذين يكافحون من أجل الحصول على لقمة العيش.
فالفرد المتصف بسلوك الإسراف قد يعاني من أنانية مفرطة وتمركز وانغلاق حول ذاته ومجتمعه، فلا يؤمن بقيمة الإيثار في نفسه فتنعدم منه صفة الإنسانية التي تدعو إلى سلوكيات التراحم والتعاطف والتكافل الاجتماعي، فالمسرف ينفق كل ما في يده تلبية لدوافعه النفسية ورغباته ونزواته ولا يترك للبؤساء والفقراء والمحرومين والمعوزين في مجتمعه نصيبا، وبسبب تجاهل الفرد المسرف لمشاعر وعواطف الفقراء والمعوزين فهو لا يبالي بتبذير الأموال وإهدارها فيما لا طائل من وراءه.
14- دعوى الحرية الشخصية المطلقة كمبرر لسلوك الإسراف:
يتبنى بعض أفراد المجتمع مفهوم الحرية الشخصية بمعناها المطلق بلا حدود أو قيود أو ضوابط دينية أو قيم أخلاقية أو معايير مجتمعية واضحة، ومفهوم الحرية المطلقة مفهوم خاطئ أثبت الواقع آثاره السلبية الجسيمة والخطيرة على الفرد والمجتمع، فليس من الحرية إيذاء النفس وإصابتها بالمرض بالإفراط في الطعام والشراب بدعوى الحرية الشخصية، وليس من الحرية الشخصية كذلك الإسراف في استهلاك الكهرباء والمياه حتى ينضبا وحرمان الآخرين من حقهم فيهما.
فالحرية الشخصية من حيث الأصل هي حرية مقيدة لا مطلقة تهدف لما فيه خير الفرد والجماعة لا إلى ضررهما، كما يجب أن تؤطر الحرية الشخصية وفق أطر وضوابط دينية وقيم أخلاقية نبيلة قائمة على مبدأ التوسط والاعتدال في الانفاق والاستهلاك كمثل إنسانية وأخلاقية عليا تحفظ حقوق الأفراد والمجتمعات لتستمر مسيرة الحياة بشكل معتدل ومتوازن يحفظ ثروات المجتمع للأجيال المستقبلية.
15- الإسراف بقصد جذب انتباه الآخرين:
تنتج الرغبة في الشهرة والسمعة باستخدام سلوك الإسراف المالي والمادي لإثارة انتباه أفراد المجتمع المحيطين بالفرد المسرف، وسلوك الإسراف هذا قد يكون ناتجا عن ضعف في الشخصية قائم على عقدة النقص في النفس، فقيام بعض الأفراد بسلوك الإسراف قد يكون لتعويض ذلك الشعور بالضعف أو النقص في جوانب الشخصية لديهم، فيقوم أؤلئك الأفراد بتعويض ذلك الضعف النفسي بمظاهر بذخ وتبذير تدل على النفاق الاجتماعي القائم على الشهرة والسمعة بغرض جذب انتباه الآخرين.
ومن ضمن الأمثلة على سلوكيات الإسراف المبنية على طلب الشهرة والسمعة من خلال جذب انتباه الآخرين: شراء البعض للأرقام المميزة كأرقام الهواتف النقالة وأرقام السيارات بأثمان باهظة يتم تمويلها بالحصول على قرض مالي وعلى حساب حالتهم المالية الواقعية بقصد المباهاة والتميز عن بقية الأفراد الآخرين في المجتمع، وبقصد جذب انتباه أكبر عدد من أفراد المجتمع.
وكذلك فمن ضمن الأمثلة الأخرى على سلوك الإسراف المبني على الشهرة والسمعة: إقامة البعض للولائم والمأدبات المكلفة ماديا وماليا والتي تسود فيها أنواع وأصناف متعددة من الطعام والشراب تزيد عن الحاجة الضرورية للضيوف، وبشكل يتسم بالإسراف والتبذير المبالغ فيه بقصد جذب انتباه بعض أفراد المجتمع، ثم للأسف يكون مصير تلك الأشربة والأطعمة في نهاية تلك الولائم والمأدبات إلى صناديق القمامة.
16- صحبة الأصدقاء المسرفين:
تلعب الصداقة دورا مؤثرا في تكوين شخصية الأفراد وتوجهاتهم الفكرية حول الكثير من القضايا والتي من بينها التعامل مع القضايا المادية للفرد، فالصداقة عنصر مؤثر في سلوك الأفراد، فالصديق الذي يتسم سلوكه بالاعتدال والتوسط في الانفاق قد يقتدي به غيره من الأصدقاء في هذا السلوك الإيجابي الحميد، وعلى النقيض من ذلك فالصديق الذي يتسم بسلوك البذخ والإسراف مثلا قد يجر بقية أصدقائه إلى سلوك نفس ذلك السلوك السلبي.
وهنا يبرز في هذا السياق دور حسن اختيار الأصدقاء والذي يجب أن يبنى على أسس سليمة والتي من أولها عنصر الالتزام بالدين، والقيم الأخلاقية التي تدعوان إلى سلوك التوسط والاعتدال في الانفاق والاستهلاك في هذه الحياة.
وفي هذا السياق وردت العديد من الأقوال والحكم حول التأثير القوي والمؤثر لعلاقة الصداقة، ومن بين تلك الأقوال: ” يقول المثل الإنجليزي:
me from my friends. (God defend (or deliver , or preserve
والذي يعني اللهم احفظني من أصدقائي (أو قني شر أصدقائي)، ويقابله عند العرب قولهم: ” عدو عاقل خير من صديق جاهل “، وقول أبي الطيب المتنبي:
ومن العداوة ما ينالك نفعه * ومن الصداقة ما يضر ويؤلم
وقول ابن الرومي:
عدوك من صديقك مستفاد * فلا تستكثرن من الصحاب
فإن الداء أكثر ما تراه * يكون من الطعام أو الشـــــــــــــراب
إذا انقلب الصديق غدا عدوا * مبينا والأمور إلى انقلاب.
وهو يذكر بقول الشاعر:
احذر عدوك مرة * واحذر صديقك ألف مرة
فلربما انقلب الصديق * فكان أعلم بالمضرة ” (2).
17- ضعف التواصل في العلاقات الاجتماعية:
ضعف العلاقات الاجتماعية الحقيقية والمباشرة بين أفراد المجتمع واستبدالهم لها بأنماط تواصل الكترونية تعتمد على بعض وسائل الاتصال والتقانة الحديثة والسريعة باستخدام شبكة المعلومات العالمية (الانترنت) التي تتيح تواصل بعض أفراد المجتمع مع التجار والمنتجين والمؤسسات والشركات التجارية بطريق غير مباشر وسريع مبني على استثارة رغبات الفرد النفسية للشراء بطرق الكترونية مبرمجة وموجهة نحو عواطف ومشاعر الفرد قد يجعل المستهلك ينسحب إلى فضاء التجارة الالكترونية و يجعله ذلك مغرما ومهووسا باقتناء تلك السلع والمنتجات بلا ضوابط أو قيود ، فيدخل بذلك في عالم الإسراف.
ومن الأمثلة على ضعف التواصل في العلاقات الاجتماعية الحقيقية واستبدالها بعالم الواقع الافتراضي: استخدام وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة لساعات كثيرة يوميا بعيدا عن التواصل البشري المباشر المبني على العلاقات الاجتماعية من أجل للحصول على السلع والمنتجات والخدمات الكترونيا، أدى بالكثير من الأفراد إلى الاهتمام باستهلاك تلك السلع والمنتجات على حساب الروابط البشرية الاجتماعية المباشرة ، وإقامة علاقات اجتماعية الكترونية مع المنتجين للحصول على تلك السلع والمنتجات والخدمات بلا تحكيم للعقل والمنطق في مجال الشراء، وبلا تخطيط منظم سليم يراعي الاحتياجات الضرورية والأولويات في مجال الإنفاق نتيجة الانسياق العاطفي المفرط للإعلانات والعروض التجارية الاستهلاكية الموجهة والمبرمجة في عالم التجارة الالكتروني التي تروج لمفاهيم البذخ الشخصي والإسراف والتبذير اعتمادا على النمط الاستهلاكي المادي البحت في حياة الفرد والمجتمع بعيدا عن عالم القيم والمثل والضوابط الأخلاقية المتعلقة بنمطي الاستهلاك والانفاق.
” ففي هذا العصر تتكون لدى الزبائن حاجات ومتطلبات جديدة، متجددة باستمرار وغير متناهية، وتلاحظ هذه الظاهرة بصورة خاصة في المدن الكبرى، حيث أن العلاقات الاجتماعية بين الناس ضعيفة، وتقوم الأشياء (السلع) مقام هذه العلاقات:” فالاتصال الهاتفي بدلا من زيارة الأهل، أو الجلوس أمام جهاز الكمبيوتر، والإبحار في عالم الإنترنت، بدلا من الالتقاء بصديق.. إلخ “.
لذا فإقامة وبناء علاقات اجتماعية بشرية متوازنة في عالم الواقع الحقيقي تقي الفرد من الانسحاب السلبي لعالم فضاء التجارة الالكترونية وما يحمله ذلك الفضاء في عالمه الافتراضي من سلع ومنتجات وخدمات تغرس في الفرد نزعة الاستهلاك وصفة الإسراف.
18- ضعف ثقافة الادخار:
يعرف الادخار بأنه الاحتفاظ بجزء من دخل الفرد بغرض الاستفادة منه مستقبلا لتحقيق هدف ما أو لمواجهة ظرف طارئ.
وقد يكون الادخار ادخارا فرديا، أو ادخارا جماعيا يشترك فيه مجموعة من الأفراد (جمعيات مالية)، وقد يكون الادخار أيضا على مستوى الدولة ككل كإنشاء الكثير من الدول صناديق احتياط عامة تدخر المبالغ الفائضة عن حاجة تلك الدولة لتوفيرها لأجيال المستقبل.
كما تتنوع الأهداف من أجل الادخار: فهناك الادخار من أجل مواجهة ظرف طارئ قد يمر به الفرد أو الأسرة، وهناك الادخار من أجل توفير فرص تعليمية جيدة للأبناء، والادخار من أجل الزواج إلى آخر ما هنالك من أهداف أخرى للادخار.
إن ضعف الوعي بثقافة الادخار قد يؤدي بالفرد إلى الإسراف بشكل غير مبرر وغير منطقي غير عابئ بما يستجد من أحداث في المستقبل قد تضطره إلى الحاجة إلى المال بشكل ملح وضروري، فالفرد الذي لا يدخر ولو جزءا بسيطا من دخله، ويبدد ماله بشكل يومي قد يجد نفسه في يوم من الأيام في ظروف اقتصادية ومالية صعبة.
19- ضعف ثقافة الاستثمار:
الاستثمار هو عبارة عن توظيف المال المتوافر لتحقيق ربح معين، ويتخذ الاستثمار أشكالا عدة نذكر منها الاستثمار في إقامة مشاريع زراعية أو تجارية أو صناعية ذات فائدة تعود بالنفع على الفرد أو المجتمع، أو توظيف الأموال في بيع وشراء العقارات كبناء المنازل وتأجيرها مثلا، أو تأسيس مدارس تعليم خاصة، أو الاستثمار في مجال ريادة الأعمال والعمل الحر، أو الاستثمار في صناديق الاستثمار المختلفة، وغيرها من أنواع الاستثمارات الأخرى.
قد تؤدي ضعف ثقافة الاستثمار لدى بعض أفراد المجتمع إلى تبديد ثروة الأفراد في اقتناء سلع استهلاكية وكمالية لا تدعوا الحاجة إليها ، وإلى تكديس الثروة وعدم محاولة تنميتها وتكثيرها وتثميرها بسبب الخوف من المغامرة ، ولما قد يترتب عليه استثمار المال من مخاطر قد تؤدي إلى الخسارة ، ولكن على الفرد الذي يرغب في استثمار ماله استثمارا صحيحا أن يقيم دراسة جدوى اقتصادية شاملة ومتأنية لتحديد ما هو المجال الأمثل لاستثمار ماله ومدخراته مع دراسة واقع السوق ومتطلباته واحتياجاته ، كما أن عليه تقييم المخاطر التي قد تترتب على ذلك الاستثمار ، مع الاستفادة من تجارب الآخرين الناجحة، إضافة إلى توفر روح المبادرة في تنمية المال واستثماره وفقا للضوابط الاستثمارية الصحيحة المبنية على التخطيط الاستراتيجي الاقتصادي الشخصي.
20- تشجيع بعض المؤسسات التجارية والإنتاجية على نمط الإسراف لزيادة عوائدها المالية:
تهدف الكثير من الدعايات المغرضة إلى تغيير موقف ورأي الآخرين تجاه النمط المعتدل في الإنفاق من خلال التأثير النفسي المبرمج على نفسية الفرد واتجاهاته السلوكية إزاء سلوك الاعتدال الذي يتم من خلال الترويج للسلع والبضائع الاستهلاكية.
وتتفنن تلك الجهات والمؤسسات التجارية والإنتاجية في أساليب الدعاية والإعلان والتسويق الموجهة والمبرمجة مشجعة بذلك على سلوك الإسراف، مستبعدة في الوقت ذاته مدى حاجة الناس لتلك السلعة أو لا، ومدى دخل الفرد الفعلي فالهدف في النهاية هو الربح المادي السريع على حساب ما مدى الفرد من دخل.
إن تلك الدعايات المغرضة والسلبية المبرمجة التي تشجع على سلوك نمط الإسراف لا تعفي عقل المستهلك من مسؤولية اتخاذ القرار النهائي للشراء، إذ يجب على المستهلك أن يحكم العقل والمنطق والحس السليم – المبني على منهج تخطيط سليم للإنفاق المادي- على الجانب النفسي والعاطفي السريع والمندفع وغير المنضبط المبني على هوى النفس في عملية شراء تلك السلع والمنتجات، فالفرد المستهلك يجب أن يؤمن في قرارة نفسه بأنه هو المسؤول أولا وأخيرا عن قرار شراء السلع من عدمه، فعليه أن يدرب نفسه ويكون يقظا فلا تؤثر فيه أساليب الدعاية والإعلانات التجارية المضللة.
*الهوامش:
1- أنظر: مجلة العربي، العدد 630، مقال للدكتور محمد دياب بعنوان:” مجتمع الاستهلاك إلى أين؟، ص 124.
2- أنظر: البعلبكي، منير، مصابيح التجربة، ص ص 43- 44.
3- أنظر: مجلة العربي، العدد 630، مقال بعنوان:” مجتمع الاستهلاك إلى أين؟، للدكتور محمد دياب، ص 126.