مطر بن سالم الريامي
يعد الذكاء السائل جوهرة العقل، والقدرة الفريدة على التفكير المنطقي وحل المشكلات واستيعاب المعلومات الجديدة دون الاعتماد على المعرفة المكتسبة مسبقا، ويشكل هذا النوع من الذكاء حجر الزاوية للنجاح في مختلف مجالات الحياة بداء من التحصيل الدراسي وصولا الى مسارنا المهني وتجاربنا اليومية.
وتعد دراسة الذكاء السائل رحلة عبر الزمن بدأت جذورها في أواخر القرن التاسع عشر مع بدء علماء النفس اكتشاف الاختلافات الفردية في القدرات العقلية، ويعد”سيبرمان” رائد هذا المجال.
في الثلاثينات من القرن الماضي أضاف العالم ” كاتيل” فصلا جديدا في هذه الرحلة من خلال نظرية “القدرات العقلية الأساسية” ميز من خلالها “كاتيل” بين الذكاء السائل والمتبلور، فبينما يعد الذكاء السائل المسؤول عن القدرة على التفكير المنطقي وحل المشكلات دون الاعتماد على المعرفة المكتسبة، يركز الذكاء المتبلور على استخدام المعرفة والمهارات المكتسبة.
ففي عالمنا المعقد والمليء بالتحديات تصبح القدرة على التفكير المنطقي وحل المشكلات واتخاذ القرارات بشكل مستقل عن المعرفة والخبرة السابقة ضرورية اكثر من أي وقت مضى، وهنا يأتي دور الذكاء السائل ذلك العنصر الأساسي للذكاء العام الذي يمكننا من التعلم والتقدم.
لذا يشمل الذكاء السائل على المهارات المعرفية الأساسية لحل المشكلات الجديدة، وهذه المهارات غير مكتسبة من المدرسة وتتضمن مثيرات غير لفظية وتتطلب اختراع استراتيجيات معرفية جديدة او إعادة تراكيب مرنة لاستراتيجيات موجود سلفا، استجابة للمواقف الجديدة ، فهو الذكاء الفطري الذي يولد مع الانسان والذي من خلاله يستطيع الفرد القدرة على التفكير المنطقي وحل المشكلات في الظروف التصورية بمعزل عن المعرفة المكتسبة وتحليل المشكلات وتحديد انماطها والعلاقات التي تستند اليها واستقرائها باستخدام المنطق، ويعكس بهذا الذكاء السائل عمليات كل من الذاكرة ومعالجة المعلومات والاستدلال، مثال على ذلك عند محاولة تذكر مجموعة من الأرقام أو حل تماثل لمجموعة من سلاسل الأحرف من خلال بعض المعايير، فهو بذلك يشمل القدرة على صياغة الاستدلال والمفاهيم، والعمل على تحديد المتشابهين، كما يتضمن الذكاء السائل على بنية معرفية حديثة اكثر من استخدام بنية موجودة سابقا فهو فطري في الأساس ويتمثل في القوة العقلية.
و في العموم ير ى ” كاتيل ” أن الذكاء السائل يمكنه أن يتدهور من خلال التقدم في العمر نتيجة التدهور في عمل الدماغ على عكس الذكاء المتبلور ، وير ى كذلك أن ما يتعرض له الشخص من تغييرات في مجال التعليم او زيادة الخبرات سواء الفكرية أو الجماعية أو في كافة المجالات في تغيير الذكاء ، تؤثر جميعها في الذكاء المتبلور اكثر من تأثيرها على الذكاء السائل مع الاخذ في الاعتباران الذكاء السائل شرط أساسي كي ينمو الذكاء المتبلور ، فما هو إذن الذكاء السائل؟
الذكاء السائل ويسمى بالذكاء المنطقي أو القدرة العقلية العامة هو القدرة على التفكير المنطقي لحل المشكلات واتخاذ القرارات بشكل مستقل عن المعرفة والخبرة السابقة، ويعتبر الذكاء السائل من أهم مكونات الذكاء العام حيث يتيح للأفراد تعلم أشياء جديدة والتكيف مع المواقف الجديدة واستخدام مهاراتهم العقلية لحل المشكلات التي لم يواجهونها من قبل.
وكما عرفه ” كارول ” هو الذكاء الذي يمثل القدرات الأساسية للتفكير المنطقي وحل المشكلة في السياقات التي لا ترتبط بالضرورة بالتعليم المدرسي ، وهو الكفاءة العقلية غير اللفظية و المتحررة نسبيا من تأثيرات العوامل الثقافية ومثالا عل ذلك القدرة على تصنيف الاشكال وادراك المتسلسلات والمصفوفات الارتباطية والتحليلات الشكلية.
وحول أهمية الذكاء السائل فإنه قد ظهر من خلال الدراسات والبحوث أنه له دورا محوريا في العديد من مجالات الحياة بما في ذلك التعلم، حيث يعد الذكاء السائل ضروريا لتعلم أشياء جديدة واكتساب المعرفة والمهارات، وفي جانب حل المشكلات تظهر أهميته في أنه يساعد على حل المشكلات واتخاذ القرارات بشكل فعال، وتكمن أهميته كذلك في انه يساعد على تحليل المعلومات وتقييم الأفكار بشكل نقدي ، ويمكن للذكاء السائل أن يساعد على التفكير بطرق إبداعية وتطوير حلول جديدة للمشكلات، وفي جانب النجاح الاكاديمي والمهني يرتبط الذكاء السائل بالنجاح الاكاديمي والمهني في العديد من المجالات.
وقد ذكرت (عطية ، 2014 ) أن نتائج تحليل العامل الاستكشافي أظهرت عن وجود أربع مكونات عالمية للذكاء السائل وهي القدرة على الاستنتاج وهي تمكين الفرد من استخلاص النتائج المخصصة لكل مشكلة، والقدرة على التفكر الاستقرائي وذلك بالجمع بين أجزاء منفصلة من المعلومات في تكوين الاستدلال وحل المشكلة، والاستدلال الكمي ويعني القدرة على التفكير الذي يتضمن العلاقات الرياضية من جمع وطرح وغيرها.
ويتم قياس الذكاء السائل باستخدام اختبارات الذكاء التي تقيس القدرة على التفكير المنطقي وحل المشكلات واتخاذ القرارات، وتتضمن هذه الاختبارات مهام مثل التشبيهات وهي مقارنة كلمتين أو شيئين من حيث أوجه التشابه والاختلاف، والاستدلال وهو استخدام المنطق لاستخلاص النتائج من المعلومات المتاحة، وحل المشكلات والذي يتطلب التفكير المنطقي والابداعي، كل ذلك ممكن أن يكون من خلال توظيف أدوات فنية لقياس الذكاء السائل خصوصا في بيئة العمل، وقد ذكرت الدراسات والبحوث منها اختبار المصفوفات المتتابعة القياسية ” لرافن “، وهو يقيس القدرة على ادراك العلاقات والمتعلقات بين الأشياء والتحليل البصري وحل المشكلات من خلا ل تحديد الأنماط واكمال سلاسل المصفوفات، واختبار القدرات المعرفية وهذا الاختبار يقيس مهارات التفكير المنطقي والاستدلال، وتقييم الأداء الوظيفي ويوظف فقط في المهام المعقدة والجديدة ، وتقييم سلوكيات حل المشكلات، ويكون بتقييم كيفية التعامل مع مشكلات الموظفين الجديدة والمعقدة، ويمكن أن يوفر معلومات قيمة عن مستوى الذكاء السائل لديهم، واختبارات اكمال سلاسل الأرقام والأحرف واختبارات التفكير التجريدي
وعلى هذا يمكن دمج الذكاء السائل مع تقنيات التعلم الذكي في بيئة العمل من خلال تطبيق عدة طرق منها النقاش والتعاون ، والاستدلال والتحليل، والنماذج الذكية، والبيانات والخوارزميات ، و التنوع والتمكين ، والرعاية والتعزيز، والتواصل والكفاءة والتطوير المستمر.
أما عن العوامل التي قد تؤثر على الذكاء السائل فإن الوراثة و الجينات تلعبان دورا مهما في تحديد مستوى الذكاء السائل لدى الفرد ، وتعتبر التغذية عاملا مهما حيث يؤثر نقص بعض العناصر الغذائية مثل فيتامينات “ب ” والحديد على نمو الدماغ وتطوره مما قد يؤثر على الذكاء السائل ، ويبقى أن البيئة التعليمية المحفزة تلعب دورا مهما في تنمية الذكاء السائل خصوصا لدى الأطفال .
وتلعب البيئة المحيطة دورا هاما في تشكيل هذا النوع من الذكاء على مدار الحياة ، فقد ركزت الدراسات والبحوث مؤخرا كثيرا على الوضع الاجتماعي والاقتصادي ، فقد يتعرض الأطفال من خلفيات اجتماعية واقتصادية أقل لفرص أقل للتحفيز المعرفي وموارد تعليمية محدودة مما قد يعيق نمو الذكاء السائل لديهم ، كذلك تظهر أهمية التعليم في مرحلة الطفولة المبكرة حيث يمكن أن يساهم التعرض لبرامج تعليمية عالية الجودة في مرحلة الطفولة المبكرة في التأثير الإيجابي على التطور المعرفي عموما و الذكاء السائل خصوصا ، كذلك التفاعل الاجتماعي فقد يعزز الانخراط في التفاعلات الاجتماعية والاحاديث المحفزة للنمو المعرفي في تطور الذكاء السائل .
ويبقى أن نشير إلى بعض النصائح والتوجيهات التي قد تساهم بشكل واضح في تحسين الذكاء السائل لدى الفرد والتي منها ممارسة التفكير المنطقي ، حيث يمكن تحسين الذكاء السائل من خلال ممارسة التفكير المنطقي مثل حل الالغاز ولعب ألعاب التفكير الاستراتيجي والقراءة والكتابة ومناقشة الأفكار مع الاخرين ، كذلك التعلم المستمر حيث يساعد التعلم المستمر في مهارات التفكير النقدي والتحليلي وتعلم مهارات جديدة و البرمجة وتعلم مهارات فنية أو موسيقية مما قد يحسن من الذكاء السائل ، أيضا من النصائح المهمة الحصول على قسط كاف من النوم ، فقد يؤثر قلة النوم على وظائف الدماغ مما قد يؤثر سلبا على الذكاء ، وكذلك تناول نظام غذائي صحي وممارسة الرياضة بانتظام والتقليل من التوتر .
وبناء عليه فان الذكاء السائل هو المقدرة على حل المشكلات الحديثة والجدية والغير مسبوقة والعادية ، وتشمل القدرة على السرعة العقلية وسرعة الذاكرة والسرعة في التفكير ، وتتمثل تلك القدرات في حل الاحجية المعقدة وتخيل أشياء من الفضاء وإيجاد نمط معين في صف الحروف ، وعليه فهو لا يرتكز على خبرة أو معرفة مسبقة أنه فقط الاستعداد للتعلم ، إن فهمنا المتزايد للذكاء السائل يتيح لنا رحلة لا تنتهي ، رحلة تؤكد على قدرة العقل البشري على التعلم والتطور، رحلة تلهمنا لمواصلة السعي لفهم امكانياتنا المعرفية والاستفادة منها لتحقيق حياة افضل .
المراجع :
قوشحة ، رنا ، قياس الإسهام النسبي للذكاء السائل في التنبؤ بسمات الشخصية لدى عينة من طلبة المرحلة الثانوية العامة في محافظة دمشق ، مجلة جامعة دمشق للعلوم التربوية والنفسية المجلد 17 – العدد الثاني 2021 ، سوريا .
عطيه ، عائشة، البنية العاملية للذكاء السائل لدى طلاب كلية التربية جامعة الفيوم ، مجلة الدراسات التربوية والإنسانية كلبية التربية جامعة دمنهور ، 2016 ، ج. م . ع
علي ، انوار محمد ، العلاقة بين الذكاء السائل والمتبلور والدافعية العقلية لدى تلاميذ صعوبات التعلم ، مجلة كلية التربية جامعة اسوان ، العدد الحادي والاربعون يوليو 2022م ، ج. م. ع .
محمد ، منال محمود ، الاسهامات النسبية لبعض المتغيرات الديموغرافية في الذكاء السائل والذكاء العام لد تلاميذ المرحلة الإعدادية باستخدام البروفيلات ، جماعة بني سويف ، رسالة ماجستير مجلة كلية التربية ، عدد يناير ، الجزء الاول 2012م ، ج. م . ع .
محمود ، علي عبدالحي وأخرون ، العلاقة بين الذكاء السائل والمتبلور والدافعية العقلية لدى تلاميذ صعوبات التعلم ، مجلة كلية التربية أسوان ، العدد 41 ، 2023 م ، ج. م. ع.