بقلم: زكريا بن عامر بن سليمان الهميمي*
“ظاهرة مساجد العُباّد ظاهرة فريدة توجد في عدد من ولايات السلطنة، ومنها: نزوى، وبهلا، والرستاق، وصلالة”، وسيقتصر حديثنا في هذا المقال – الذي يُعدُّ محاولة فكرية أولية ومبسطة وبداية في طريق البحث العلمي الطويل- حول ظاهرة مساجد العباد في ولاية بهلا، وما يدور حولها من أطروحات وفلسفات فكرية وروايات شعبية وتاريخية.
تقع مساجد العُباّد في جهتي الشمال والشرق من قلعة بهلا التاريخية، وخارج سور بهلا التاريخي العظيم المحيط بالولاية، وهذه المساجد عبارة عن ثلاثة مساجد، مبنية حسب الطراز المعماري العماني القديم، الذي يمثّل نموذج عمارة المساجد في العصر النبوي الأول، ذلك النموذج المعماري للمساجد، الذي يتميز ببساطة البناء، والتقشف، وعدم وجود الزخارف والرسومات أو النقوش في عمارتها، حيث بُنيت هذه المساجد من الطين والقش، وغطي سقفها بجريد النخل، وعمل أساسها بالحجارة، ولهذه المساجد محاريب غير بارزة من الخارج، لكن بها أقواس داخلية، “ومساحة كل مسجد حوالي 50 مترًا مربعًا، وللمساجد ستة مداخل، تعلوها عقود زورقية”، وهذه المساجد حاليا آيلة للسقوط والاندثار، كونها مهجورة، ولم ترمم منذ مدة طويلة.
لا يُعرف تاريخ بناء هذه المساجد تحديدا، لكن الجيل الحالي من كبار السن الذين يعيشون بيننا نشؤوا في هذه الحياة وتلك المساجد كانت قائمة، وحول تاريخ بداية ظاهرة مساجد العباد في عمان يرى سعادة الشيخ المؤرخ أحمد بن سعود السيابي – في حواره مع الباحث خميس بن راشد العدوي- أن ظاهرة مساجد العباد ظهرت في فترة تاريخية متأخرة نسبيا في عمان، وذلك في معرض حديثه عن التصوف في عمان، وبالتحديد لدى أتباع المدرسة الإباضية، حيث قال: “الشيخ أبو مسلم البهلاني تربى على مدرسة الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي، لأن الشيخ أحمد بن سعيد بن خلفان الخليلي والشيخ أبا مسلم عاشا زميلين وصديقين معًا في وادي محرم من عُمان، فقد صار فكر الشيخ أبي نبهان وفكر الشيخ ناصر بن أبي نبهان وفكر الشيخ سعيد بن خلفان، ومفاهيم التصوفية التي ربطوها بالسلوك وليس بالممارسة الطقوسية، هي الفكر المهيمن في عُمان، فأصبح الجميع يتحدث بمفاهيم تصوفية، فالأشعار والأدبيات جاءت في هذا الإطار، والعلماء كانوا يتحدثون بهذا المنطق، وكثرت الخلوات، حتى الخلوات الرياضية لطلب العلم جاءت في تلك الفترة، أنا اعتبر مساجد العباد في نزوى، والخلوة والابتعاد عن الحياة في بهلا والداخلية جاءت في هذه الفترة، لأنّا لم نكن نسمع قبل ذلك عن عابد يذهب ليعبد الله تعالى في جبل، وفي هذه الفترة ظهر الانعزال، حتى أن أحد السادة وهو السيد سيف بن محمد البوسعيدي -المعروف بالزاهد- انعزل عن الحياة، وأخذ يعيش منفردًا بين الجبال يعبد الله تعالى وحده.
كل هذه المفاهيم جاءت في هذه الفترة إلى عمان، فما من عالم إلا ومارس الخلوة الرياضية؛ حتى يتحقق له كسب العلم؛ لكي يكون عالمًا وحافظًا، فمعظم العلماء من عهد الشيخ أبي نبهان إلى عهد الشيخ السالمي كان الجو المسيطر عليهم هو الجو الفكري التصوفي؛ نتيجة آراء الشيخ أبي نبهان وابنه ناصر والشيخ سعيد بن خلفان، وعلماء كبار كانوا ممسكين برئاسة العلم في عهدهم، فالشيخ أبو نبهان كان المرجع الديني والعلمي الأعلى في عمان في عهده، ثم الشيخ ناصر بن أبي نبهان حلّ في هذه المنزلة بعد والده، ثم الشيخ سعيد بن خلفان حلّ هذه المنزلة بعد الشيخ ناصر، فهؤلاء كانوا مراجع علمية ودينية ضخمة، والناس تتبعهم وتسمع لقولهم وكلامهم، وتتبع مراشدهم وعلومهم، وتتناقل معارفهم، فصار فعلاً الجو جو تصوف فكري، حتى الشيخ السالمي -الذي لاحقًا أنكر هذا الأمر وقلب عليه ظهر المجن- كان قد تأثر بهذا الجو في بداية عمره؛ لأنه كان يعيش مع الشيخ راشد بن سيف اللمكي في الرستاق، وذهب إلى الشيخ محمد بن سيف السيفي في نزوى، لكي يمارس الخلوة الانعزالية الرياضية ليكون عالمًا، فكان متأثرًا بالجو نفسه، إلا أن الشيخ السالمي لاحقًا -عندما اطلع على المعارف والعلوم- رأى أن هذه كلها أوهام في أوهام، وأن علوم الشريعة لا يمكن أن تؤخذ بمثل هذه الممارسات.
العدوي: ولا الحياة تُبنى بهذه الطريقة.
السيابي: نعم؛ ولا الحياة تبنى بهذه الطلاسم ونحوها، فبالفعل قلب ظهر المجن، وأنكر كل ذلك، لذلك فالمدرسة السالمية فعلاً قلبت الوضع، ويكاد قد قضت على التصوف في عمان، أو حجمته على الأقل، وبقي بعض الممارسات الاجتماعية البسيطة، ولكن كتصوف فكري وحتى كتصوف سلوكي فعلاً المدرسة السالمية قضت عليه، إذن أقول: إن هؤلاء الأقطاب الثلاثة، هم الذين بنوا الحياة الفكرية الصوفية في عمان من منظورها السلوكي.
ألخص كلامي أن الكثير من المفاهيم الصوفية وجدت في هذه الفترة؛ كالانعزال عن الحياة ومن عرف بالسائحين والعباد والزهاد، وكذلك ما عرف بمساجد العباد؛ مساجد صغيرة على رؤوس الجبال وفي أمكان منعزلة بنيت في هذه الفترة.
السيابي: نعم كلهم وجدوا في هذه الفترة، لكن يبقى أن نقول: إن الإباضية في عمان لم يأخذوا بالتصوف كطرق وممارسة طرقية، إنما أخذوا به في جانب التأمل، وفي الجانب التعبدي نسبيًا”، ويعقب الباحث خميس بن راشد العدوي على كلام الشيخ السيابي، أن تاريخ مساجد العباد أقدم بكثير مما ذكره الشيخ السيابي، حيث أنه وجد أن مساجد العباد جاء ذكرها في الوثائق التي سبقت الدولة اليعربية، ككتاب: “منهاج العدل” لعمر بن سعيد المعدي البهلوي، لكنه يرى أنه لا يعرف متى انتهت ظاهرة مساجد العباد، لكنها كانت قائمة وحية في الدولة اليعربية، وربما استمرت في صدر الدولة البوسعيدية، حيث قامت في ذلك الوقت المدرسة السلوكية التي كان أشهر رموزها الفقيه أبو نبهان جاعد بن خميس الخروصي (ت 1237 هـ)” (إلى هنا انتهى الحوار).
تقع مساجد العباد في ولاية بهلا في منطقة جبلية، في تلة مرتفعة وفي منطقة منعزلة وغير مأهولة بالسكان، خلافا للمساجد التي تقع في وسط التجمعات السكانية، وتقام نظرا لحاجة السكان إليها، ونتيجة لذلك التفرد والعزلة، خلافا لعالم الواقع والمألوف؛ نُسجت حولها الكثير من القصص والروايات الشعبية، ذات الطابع الأسطوري الروائي والنمط القصصي الخرافي والخيالي أو ذات الطابع الواقعي المألوف في أحيان أخرى، ومن تلك الروايات الشعبية الشفهية التي تروى حول بناء هذه المساجد: “أن العباد وهي صيغة مبالغة للذين يمارسون طقوس عبادة دينية تعرضوا لنوع من الاضطهاد الديني من قبل بعض الحكام المستبدين في الأزمنة الغابرة فكانوا لا يعطون مساحة حرية دينية كافية لهؤلاء العباد الذين يشغلون جلّ وقتهم في عبادة الله، من خلال ممارسة عدد من الشعائر والطقوس الدينية كصلاة قيام الليل، والتهجد، وقراءة القرآن الكريم، والاعتكاف، وترديد الأذكار؛ مما حَدا بهم إلى البحث عن مكان آخر يشعرون فيه بحرية ممارسة تلكم العبادات، فقاموا ببناء ما ينسب إليهم وهي مساجد العباد في منطقة منعزلة خارج حدود سور بهلا، بعيدا عن المناطق المأهولة بالسكان، وبعيدا عن اضطهاد السلطات الحاكمة المستبدة”، وفي رواية شعبية أخرى ترى: “أن سبب وجود هذه المساجد الثلاثة في تلك المنطقة هو أن هذه المساجد كانت قد بنيت من حيث الأصل في مناطق مألوفة ومأهولة بالسكان؛ لكن قام أولئك السكان بإهمال تلك المساجد وتلويثها وعدم احترام قدسيتها ومكانتها الدينية، فقام بعض العباد -الذين كانوا يمتلكون قوى خارقة للعادة وغير مألوفة- باستخدام علم يسمى في عرف العامة “الرياضة”، وهو نوع من أنواع التطبيقات العملية المرتبطة بعالم اللامألوف قام أولئك بنقل هذه المساجد من أماكنها، فطارت تلك المساجد وحطت في مكانها الجديد المعروف حاليا”، وفي رواية شفهية ثالثة تناقض تماما تلكم الرواية الخارجة عن عالم المألوف، ترى هذه الرواية: “أن المنطقة التي تقع فيها هذه المساجد حاليا كانت منطقة حضارية عامرة ومأهولة بالسكان، لذا كان بناء هذه المساجد؛ نظرا لحاجة السكان إليها، وهذه الرواية ترى أن هذه المنطقة كانت المكان الأول لاستيطان الناس في ولاية بهلا، ثم انتقل الناس عن هذه المنطقة وهجروها لأسباب نجهلها إلى أماكن الاستيطان الحالية في ولاية بهلا، فبقيت تلك المنطقة مهجورة وخالية من السكان، وبقيت مساجدها شاخصة البنيان حتى يومنا هذا”، وهذه الرواية تقودنا للحاجة إلى دراسة أثرية متخصصة للمنطقة التي تقع فيها مساجد العباد، من خلال التنقيب الأثري لإثبات مدى صحة هذه الرواية من عدمها، وتذهب رواية شعبية شفهية أخرى متناقلة: “أن منطقة مساجد العباد كانت من حيث الأصل منطقة واسعة كانت تؤدى فيها صلاة العيد واستمرت صلاة العيد في هذه المنطقة حتى بداية حكم الشيخ العلامة أبو زيد عبدالله بن محمد بن رزيق الريامي لولاية بهلا، وبالتحديد في عام 1334هـ، قبل أن ينتقل مصلى العيد إلى منطقة أخرى تسمى المستغفر”.
ويدور في ذهن الكثير من الناس أيضا سؤال حول وجود مساجد عباد ثلاثة متقاربة جدا وفي مكان واحد؛ مما يعطي انطباعا في الأذهان حول الكثير من التكهنات والأسباب التي قد تبدو للوهلة الأولى ظاهرة غير منطقية وغير مألوفة، ولكن ربما ونظرا للمساحة المحدودة التي بني فيها المسجد الأول الذي تحكم مساحته تلك التلة الجبلية الطبيعية المرتفعة فيستحيل معه توسعة هذا المسجد، تم بناء المسجد الثاني أيضا في تلة أخرى ذات مساحة محدودة تحكمه نفس مساحة التلة الجبلية المحدودة التي كانت تحكم المسجد الأول، ثم تم بناء المسجد الثالث وتحكمه أيضا نفس تلك المحددات؛ لذا اقتضى الأمر إنشاء ثلاثة مساجد، بدلا من مسجد واحد وتشترك تلك المساجد كونها بنيت منذ البداية من قبل من قاموا ببنائها لتكون في مكان مرتفع بغرض التأمل كأحد الأسباب الرئيسة في بناء مثل هذا النوع الفريد من المساجد، وربما كانت هناك أعداد كبيرة من العابدين يمارسون عبادات فردية أو جماعية؛ فاقتضى الأمر بناء ثلاثة مساجد، تحكمها -كما ذكرنا- تلك التلة المرتفعة المحدودة في مساحتها.
“وتحيط بمنطقة مساجد العباد أيضا في ولاية بهلا عدد من السلاسل الجبلية الشاهقة، وتلك السلاسل الجبلية كانت تسكنها في الزمن الماضي عدد من السباع الضارية، ومنها: حيوان الوشق، الذي كان يسمع صوته بوضوح قبل أن يختفي في عصرنا الحاضر نتيجة لظهور المدنية الحديثة “.
وبنظرة واقعية في عالم المألوف نستنتج من خلال تسمية هذه المساجد بمساجد العباد، أنها قد تكون مساجد أنشأها بعض العابدين لله من النساك والمعتكفين في تلك المنطقة البعيدة عن صخب الحياة ومشاغلها ولهوها ومتاعبها اليومية، وبعيدا عن أنظار الناس وعن عالم الحياة المادي بكل مظاهره؛ بقصد الخلوة والتحنث والتنسك والتعبد وممارسة عبادة الاعتكاف، بغرض تزكية النفس، وشغل الوقت في أنواع من العبادات وأنواع من الذكر التي تحلق بالنفس في عالم التأمل والتفكر، والتي من خلالها يصل المسلم إلى تزكية وتصفية نفسه من أكدار هذه الحياة وعوالقها، فتتصل نفسه بالله وحده خالق هذا الكون الفسيح، فتنبعث الطمأنينة والسكينة في نفسه وقلبه وعقله ويزداد إيمانا ويقينا، وهذه العبادات المتنوعة التي كانت تمارس في هذه المساجد تعدّ تربية إيمانية سلوكية للنفس البشرية في مسيرتها إلى الله درج عليها الكثير من العابدين والناسكين، فهذا النمط الحضاري من العبادة والاعتكاف القائم على الخلوة والبعد عن مظاهر وتفاعلات الحياة المادية كان يمارسه الكثير من العباد والزهاد على مرّ العصور والأزمان، ونجد له شواهد في أدبيات التاريخ، فهؤلاء العباد كانوا يعتقدون أنهم إذا لم يخصصوا وقتا محددا لعبادة الله وخاصة في جوف الليل وبعيدا عن صخب هذه الحياة؛ فستجرفهم الحياة بملذاتها وشهواتها المادية لا محالة، فيقعون في الغفلة، وتبتعد أنفسهم عن الإشراق واليقظة الإيمانية، وتبتعد أرواحهم عن الشفافية المعنوية، وقد ينحرفون عن المسلك القويم.
وهذا النمط من العبادة أيضا، والذي يتسم بالبعد والخلوة بعيدا عن حياة الناس العادية والمألوفة، يرى البعض أن له أصلا في تاريخنا الإسلامي، إذا يذكر أن النبي محمد – صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة النبوية كان يتعبّد في غار حراء، في مكان مرتفع، بعيد عن صخب الحياة القرشية وتداعياتها الحضارية المادية، واعتقاداتها الوثنية والشركيّة المنحرفة في مكة المكرمة، فكان -عليه الصلاة والسلام- يتأمل من ذلك المكان الشاهق المرتفع في مخلوقات الله المبثوثة في هذا الكون، فيزداد إيمانا ويقينا بأن الله هو خالق الكون والمتصرف في شؤونه لا شريك له، كما تطالعنا الكثير من الروايات والقصص التاريخية في تراثنا الإسلامي والواردة عن القصص والروايات الإسرائيلية، عن بني إسرائيل الذين يضرب بهم المثل في الزهد والانقطاع في العبادة، أنهم كانوا أيضا يمارسون هذا النوع من طقوس العبادة القائمة على الخلوة بعيدا عن الناس، لذا فظاهرة مساجد العباد لا تعدو كونها انعكاسا مألوفا وطبيعيا لذلك النمط من العبادة الذي كان يمارسه بعض العباد والنساك والزهاد، مما يمكننا أن نطلق عليه مجازًا مصطلح: “عبادة التأمل”، والمتأمل في واقع هذه المساجد يجد أنها تقع في مكان مرتفع ومنعزل يشرف فيه العابد والناسك من خلال عبادة التأمل في خلق الله، وهي إحدى أنواع الذكر لله من الأعلى للأسفل، فيرى مظاهر الحياة المادية الطبيعية والإنسانية القائمة والمظاهر البائدة تبدو صغيرة في عينيه، فينعكس ذلك على نفسه وكيانه وسلوكه، فيزهد في هذه الحياة ومتاعها الفاني.
ومما يزيد منطقة مساجد العباد -التي تقع في تلال مرتفعة- هالةً وروحانية وسكينة في قلوب العابدين، هو وجود منطقة المساجد وسط مقبرة كبيرة، تعدّ كمدينة للأموات، وتُعرف هذه المقبرة لدى سكان ولاية بهلا بمسمى: “مقبرة المرجبة” أو تسمى أيضا: “مقبرة مساجد العباد”، “وتقع مقبرة مساجد العباد هذه شرق حارة الغاف بعد السور المحيط بحوالي 300م حذو الشارع العام (نزوى – بهلا) من جهة الشرق، وهي مقبرة كبيرة طولها يقارب كيلو متر من الغرب إلى الشرق، وعرضها من بعض الجوانب قد يصل إلى 400 م، والمقبرة قديمة جدا، ترك الدفن فيها منذ حوالي قرن من الآن، ومعظم قبورها سليمة غير مندثرة، وشواخصها حجارة مختلفة الأحجام”.
وكان يدفن في هذه المقبرة الكبيرة في مساحتها منذ زمن بعيد أتباع تسع حارات في ولاية بهلا وهي: حارة خليفة، وحارة الحداد، وحارة الغاف، وحارة الفراج، وحارة المغرف، وحارة الجبل، وحارة بني صلت، وحارة بيمان، وحارة البدعة، ومن أشهر القبور في هذه المقبرة قبر الشيخة الصالحة والعالمة الرضية والزاهدة الورعة عائشة بنت راشد بن خصيب بن أبي الخفير الريامية البهلوية، والتي كان مولدها في النصف الثاني من القرن الحادي عشر الهجري، والتي كانت تسكن في حارة الغاف، وعاشت فيما بين القرن الحادي عشر والثاني عشر الهجريين في عصر دولة اليعاربة، وكانت وفاتها في عصر الإمام بلعرب بن حمير بن سلطان اليعربي، وبوجه التحديد سنة 1147هـ، ويقع قبرها شمال البئر الواقعة في منطقة مساجد العباد، ويقع قبرها بالتحديد شرقي مساجد العباد، فيما بين البئر والطريق من هذه المقبرة، وكان يوجد على قبرها لوح من الرباب مكتوب فيه اسمها وتاريخ وفاتها، ولا يزال هذا القبر معروفا وظاهرا للعيان؛ ولكن مع مرور الزمن تلاشى تاريخ وفاتها، وحول هذا القبر قبور أخرى كثيرة مندثرة؛ مما يدل على قدم هذه المقبرة، ويروى عن بعضهم أن هذه المقبرة تشاهد فيها الأنوار الساطعة ككرامة لبعض الموتى من أولياء الله الصالحين الذين دفنوا فيها، “فيروى عن أحد من أهالي ولاية بهلا أنه في إحدى الليالي رأى نورًا ساطعًا على إحدى القبور؛ فحدد مكانه، وفي اليوم التالي سأل عن هذا القبر، فأخبره جمع من الناس أن ذلك كان قبر الشيخة العالمة عائشة الريامية -رحمها الله-“.
ونظرا لما في نفوس الناس من قدسية ومكانة مألوفة لهذه المساجد الثلاثة، كمكان طاهر للعبادة فكان الكثير منهم يصلون ركعتين في تلك المساجد عندما كانوا يمرون على تلك المنطقة، ويروى أيضا، أن الشيخ العلامة أبو زيد عبدالله بن محمد بن رزيق الريامي -رحمه الله- الذي تولى الولاية والقضاء في ولاية بهلا من سنة 1334 هـ، وحتى وفاته سنة 1364 هـ/ 1945م ما كان يمرّ على هذه المنطقة إلا ويصلي ركعتين “تحية المسجد” في أحد مساجد العباد.
ومن تفاعل الناس في ولاية بهلا مع الواقع والمألوف أيضا، فقد كانوا يوقفون أوقافا مخصصة لعمارة وترميم هذه المساجد، وهذه الأوقاف والوصايا كانت عبارة عن عدد من بساتين النخيل، ومن أمثلة تلك الأوقاف -التي لا تزال ماثلة للعيان حتى يومنا هذا- بستان من النخيل، يسمى :”بصرة المساجد” نسبة إلى مساجد العباد إضافة إلى بعض الأراضي في منطقة سفالة بهلا، والتي هي أيضا تعدّ أوقافا خاصة بعمارة مساجد العباد، وبعض أوقاف مساجد العباد تتبع حاليا أوقاف جامع بهلا التاريخي القديم”.
“من جانب آخر برز اهتمام وشغف بعض الناس في ولاية بهلا في الزمن الماضي بمنطقة مساجد العباد وما حولها؛ نظرا لتفرد هذه المنطقة وتميزها أنهم كانوا يقومون برحلات تأمل خلوية لهذه المنطقة بغرض الاستجمام والتنزه والترويح عن النفس والتأمل في خلق الله، فقد كانوا يستيقظون في الصباح الباكر ويحملون معهم أواني الطبخ وما يحتاجونه من غذاء ويتجهون لهذه المنطقة البعيدة والمنعزلة، فيمكثون فيها مدة من الزمن، حتى وقت الظهيرة في رحلة خلوية بعيدة عن صخب الحياة المادية المعتادة وضوضائها وتعقيداتها”.
وفي خاتمة المطاف، تبقى منطقة مساجد العباد – حاليا – منطقة شامخة في عالمنا الواقعي المألوف – بعيدًا عن عالم الأساطير، وعالم السحر، وعالم الخيال والمبالغة والتهويل، واللامألوف – منطقة جديرة بالزيارة؛ بغرض التفكر والتأمل في أحوال الغابرين، ونتمنى إعادة ترميم مساجد العباد الثلاثة في ولاية بهلا، باعتبارها موروثًا معماريًا حضاريًا، ومعلمًا خالدًا من موروثات تراثنا المعماري العماني الأصيل، المتمثل في عمارة بيوت الله تعالى، وتبقى ظاهرة مساجد العباد، ومنها الأنموذج البهلوي ظاهرة جديرة بمزيد من البحث والتأمل والتفكر، لإظهار أبعادها وتأثيراتها في الحياة الدينية والفكرية والاجتماعية في عمان”.
*المراجع المعتمدة لمادة البحث العلمية المكتوبة هي كالتالي :
- “روايات شعبية متناقلة شفهيا، حول مساجد العباد في ولاية بهلا”، في مقابلة مع والدي عامر بن سليمان بن عامر الهميمي، في منزله، بمحلة اللحمة، في ولاية بهلا.
- البطاشي، سيف بن حمود بن حامد ،” إتحاف الأعيان في تاريخ بعض علماء عمان”، مكتب معالي السيد محمد بن أحمد بن سعود البوسعيدي – مستشار جلالة السلطان للشؤون الدينية والتاريخية.
- خلفان بن سالم البوسعيدي، “الدرر البهية من أجوبة الشيخة العالمة عائشة بنت راشد الريامية”، مكتبة الضامري للنشر والتوزيع، مسقط.
- سلطان الشيباني،”معجم النساء العمانيات”، مكتبة الجيل الواعد، سلطنة عمان.
- السيابي والعدوي، أحمد بن سعود وخميس بن راشد ، ” التصوف في عمان”، مدارسة مع فضيلة الشيخ أحمد بن سعود السيابي، أجراها: خميس بن راشد العدوي – مجلة الفلق الإلكترونية ومكتبة الغبيراء.
- مدخل حول مساجد العباد. الموسوعة العمانية. وزارة التراث والثقافة، سلطنة عمان.
- مجموعة تغريدات في تويتر، حول: “مساجد العباد في ولاية بهلا”، للباحث خميس بن راشد بن سعيد العدوي.
*كاتب وباحث،حاصل على البكالوريوس من كلية التربية بجامعة السلطان قابوس تخصص اللغة الإنجليزية عام 2004، حالياً طالب دراسات عليا في كلية العلوم والآداب جامعة نزوى تخصص اللغة الإنجليزية لغير الناطقين بها، له عدة أوراق بحثية ودراسات ومقالات وقصص مترجمة منشورة