مراد غريبي/ كاتب وباحث جزائري
لاتزال قضايا التراث و حمولاته و إرهاصاته تشد العقل الإسلامي المعاصر بكل صوره الاكاديمية و الكلامية و الفلسفية، في قبال الموجات النقدية الاستغرابية التي تجاوزت التراث نحو تفعيل مشاريع النهضة و التجديد الثقافي عبر استنساخ مناهج الغرب و عدم البقاء ضمن بوتقة التمحيص و الجدال و الاستشكالات التاريخية: لماذا تقدم الغرب و تأخر المسلمون؟ لماذا أخفقت مشاريع الإصلاح و النهوض؟ كيف نجدد نهضتنا؟
تاريخ أفكار النهضة:
هذه الأسئلة لا تزال تتفاقم و تتوالد في مشاريع فكرية و أبحاث نقدية لكن الواقع لم يتغير بل ازداد تخلفا رغم كل الحبر الفكري النهضوي الذي سال و لا يزال، فما ميز مشاريع النهضة على ضوء نقد التراث من جهة والتأسيس عليه في التاريخ العربي الحديث وما بعده إلى غاية مطلع الألفية الثالثة هو اختلاط المعرفي بالسياسي، مما انتج نماذج تحليلية تتراوح بين التوفيق التاريخي و المصلحة، منها من جاءت لعرض الصور الهامة للتقدم في التراث (الطيب التيزيني انموذجا)، ثم لاحقا أخرى عملت على تفكيك نصوص التراث و رفع اغلال سلطة التاريخ وأوهامه في قراءته بأدوات حداثية من أجل النهضة؛ كتوجه نحو التغيير و التحرر و التحديث و فتح أفق التنوير (محمد أركون أنموذجا)، بينما التيار الثالث كان سعيه نحو مشروع عقلانية التراث على ضوء إشراقات الفكر الرشدي ؛ ( الجابري و أبوزيد)، وهناك تيار معاصر يتمثل في مشروع الحداثة الذاتية التي تنتج مناهجها و مفاهيمها و تنفرد بخطابها العلمي ( طه عبد الرحمن)، الى ما هنالك من اتجاهات وتيارات فكرية تراوحت بين المعرفي و السياسي في مقاربة ماهية التراث و التجديد و النهضة.
نحو وعي حركة تاريخ الأفكار:
على ضوء ما تقدم الهدف الرئيسي هو ضرورة إدراك و أرشفة الأفكار التغييرية و التجديدية أرشفة علمية معمقة وفق مناهج دقيقة، لوعي مسارات كل مفكر و مشروعه و مدى إمكانية اعتماد أفكاره و استثمارها، و هذا ما يساعد في عدم إعادة اختراع المخترع، و إنما القراءة النقدية الإبداعية في مسيرة البحث عن المشروع النهضوي و التجديد الثقافي الواقعي الذي يسهم في التمكن من طرح الأسئلة الحية و ليس القاتلة أو الميتة.. و هذا ما لاحظت المفكر السعودي الأستاذ زكي الميلاد قد اعتمده خلال أكثر من عقدين من الزمن بحيث اختصر أهم خطوط الأفكار و المشاريع و الاتجاهات و التطلعات في الفكر العربي و الإسلامي الحديث و المعاصر، حيث يشير لأهمية حقل تاريخ تطور الأفكار من خلال تبيان خصوصية الأفكار بالقول: “الأفكار فهي بحاجة إلى أدوات من نوع مختلف-عن نوع دراسة الأحداث و الأشخاص-، هي أدوات الخبير الذي يشتغل بهذا الحقل بحثاً وتحقيقاً وتحليلاً واكتشافاً، كالمفكر والعالم والفيلسوف والمثقف”.
منبها ضمن ذلك كله إلى ضرورات وعي نسبية ذلك كله و أهمية تجديد التفكير و إبداعه بما ينعش الوعي بعصر النهضة في كتاباته عن الحداثة و النهضة و التجديد و الإصلاح..
الجدير بالقول أن المعاملات متعددة و متغيرة أثرت بعمق في توجهات الفكر وفي معطيات الواقع، مما جعل اغلب التطلعات النهضوية تقتصر على محاولات فردية أو برامج فئوية ضيقة، ناهيك عن جدلية الخطاب و الواقع و السلطة، ومعوقات المركزية الغربية التي أطلقت عصر انفجار الهويات بدلا عن الاجتماع المدني و التحديث و الديمقراطية ، لذلك كله ظلت النقاشات الفكرية النهضوية نخبويةً وبعيدة عن مواقع الدولة و الامة من جهة، وبعيدة عن التجديد الثقافي فلم تتحول إلى ثقافة تنوير و سؤال استراتيجي من جهة أخرى.
من جهة ثالثة ، قد يتصور البعض أن الربيع العربي دفع من جديد سؤال النهضة و الاجتماع المدني الذي يجدد مفهوم الدولة على أسس حداثية و إرادة حضارية معاصرة، لكن مشكلة الثقافة سرعان ما بددت هذه الأحلام ببروز الانشطارات و صراع الهويات و تفشي الأمراض الأيديولوجية و تسلط المصالح الفئوية على مصالح الأمة و التي تحكمت في الواقع العربي بفعل تاريخ من المعضلات الذاتية و مخططات الجهات الإقليمية والدولية.
في ظل هذا التاريخ لابد من تجديد الوعي بالأفكار و تركيز معامل الواقعية دون الانبهار أمام إرهاصات الواقع و مخرجاته التي لا يمكن أن تجود الا بما حملته أيام التاريخ الحديث و المعاصر، مما يحتم علينا ملاحقة رهانات التجديد و النهضة على ضوء المعرفة العملية..
القراءات النقدية و انبثاق عصر النهضة
ظاهرة النقد العلمي في المجال العربي لا تزال حبيسة عقليات ضيقة لا تكاد تتحرر من التقليد و الإذعان، فالحالة النقدية تجاه التراث، عرفت منعطفات متعددة، تراوحت بين عدم تحديد ماهية التراث في قبال ماهية المقدس من جهة، و أيضا الجو الطائفي الذي اخلط مشاريع التمحيص و التنظيم، و هناك من يرجع تهافت قراءات التراث إلى فقدان علم الكلام كعلم كلي لسلطته المعرفية و المنهجية في تحرير المقدس من إخفاقات التراث، و الجدير بالذكر ان انبثاق عصر الإصلاح في القرن التاسع عشر الذي شهدته مصر وتونس والشام، لم يخلو من بذور التعطيل التي أورقت لاحقا في الصراعات الأيديولوجية لأن ما سمي بالإصلاح كان في الحقيقة شبيها له، كونه كان وليد الأيديولوجي المستحكم في المعرفي، و لعل أهم مأزق لمشاريع النهضة هي القراءات النقدية الأيديولوجية التي ضيقت الخناق على القراءات النقدية العلمية في جل حقول التراث ناهيك عن ضبابية الجانب المنهجي.
عودا لذي بدء، لقد كتب الجابري و أركون ونصر أبو زيد و لايزال طه عبد الرحمن و غيره و كان قبلهم الكثيرين من المشرق و المغرب و من جل ألوان الطيف الإصلاحي العربي و الإسلامي، حيث ساهمت أعمالهم في تطور المعرفة، على الرغم من كل ما يمكن ان يقال حول أعمالهم لكن مشاريعهم ستظل مهمة في حينها و الى الآن، لأنها شاهدة على نقاط ضعف و مواطن تخلف و خلل في المناهج و الأدوات كما أنهم اجتهدوا من أجل مستقبل أفضل، مما يشكل غنى معرفيا في صياغة حالة فكرية نقدية قادرة على مواجهة العجز و صياغة الوعي الثقافي اللازم للنهضة الحضارية، لأن النقد وسيلة و ليس هدف، الاستغراق فيه ينتج عقدة نفسية مصدرها مشكلة التطرف أو العنف المتجذرة في تفاصيل ثقافة العديد من قراء التراث و ادعياء الإصلاح، و لا تُحل هذه العقدة إلا بإزالة شروطها العميقة في الذات و المجتمع عبر الحقول التالية:
الحقل الثقافي: تمكين العقلانية و الروح العلمية من إصلاح مشكلات الثقافة في المجتمع.
الحقل التربوي: ترسيخ قيم الاعتدال و التسامح كأسس إصلاح المناهج و تحرير الواقع من صراعات التاريخ و الاستغراق فيها.
الحقل القانوني: القانون الناجح لا ينتج عنفًا، لأنه يفتح كل الأبواب على ثقافات العدل عبر الحوار و التعايش و الشورى و التعاون، كما أنه يحمي معتقدات الناس عبر رسم معالم المسؤولية الاجتماعية.
و تبقى هذه الحقول الثلاث هي معالم المنظور الحضاري كمنهج في النقد و التحليل و التطلع عبر قنوات ثلاثة الفلسفة كثقافة والمنطق كتربية و المعرفة كقانون..