خاص لشؤون عمانية:
أجرى الحوار: علاء حميد إدريس
من أين ينبع اهتمامك بالبحث الصوفي والتحقيق في التراث على الرغم من وجود تخصصات متعددة في الفلسفة الاسلامية ؟
البحث في التصوف بحثٌ عن طريقٍ للذات كي تحيا وتُولد ولادة حقيقة، وطلب للنجاة من صخب الخطابات الدينية المزعجة، وبعدٌ عن التسليم لأي أحد ممن يرهقوننا بحديث التنوير والتجديد، وهم في الأساس لا يختلفون عن غيرهم في استغلال المسلم العربي اليوم.
في بدايات اهتمامي بالتصوف كانت تعجبني بعض عبارات متصوفة الإسلام وأصحاب التجارب منهم بشكل خاص، كانت القراءة لهم بمثابة غسل وتطهير لنفسي، كنت أكتفي بالقراءة القصيرة، وبعض الكتب كنت أخشى قراءتها لأنها بالتبعية ستحملني أمانة المعرفة، فكما يُقال: “عرفت فالزم”. وقد عرفت أن الحُجّة تقام على الإنسان بعد أن يعرف وتنكشف له الأمور، فكنت أضرب صفحًا عن متابعة القراءة خوفًا من المعرفة! بعد فترة تبدد هذا الخوف بالتعرّف على بعض الصوفية السالكين الذين قرّبوا بكلمات بسيطة عالم التصوف ورغب قلبي في المزيد، فلجأت إلى الكتب والرسائل لأتعرّف على هذا العالم، لكن هذه المرة كان الحُبُّ هو الدافع.
انجذبت أكثر بشكل خلاصيّ ومعرفي معًا إلى التصوف الفارسي، ورأيت الإنسان يُخاطب فيه بلغة عشقية كلها ترغيب ولا مكان فيها لترهيب أو تخويف، يناديك الصوفي العاشق: تعال .. تعال لا يهمّ من أنت .. أو لماذا أتيت؟! لا يطالبك بقطيعة مع السابق الذي كوّن إنسانك، أو التنصل من كلّ معتقداتك .. درجة درجة يقرّبك إلى عالمه، وينطق لسانه بحكمة المسيح، وينعكس جمال يوسف على صورة مجالسه، ولا تبدو عاشقة كـ”زليخا” مجرمة في حقّ إنسانها، بل يبدّل حال عشق القلب المستعر سكنًّا وأمنًا، شمس المتصوفة لا تأفل وتسطع في منتصف الليل؛ لذا كان في انجذابي إلى هذا العالم لقاء مع حياة دينية جديدة.
في هذا العالم الصوفي بساتين كثيرة، لم تجذب المسلم فحسب، بل جذبت كثيرين من أهل الأديان الأخرى، ووجد كثير من الدارسين الأعاجم في هذا اللون من الكتابة خطابًا إنسانيًا راقيًا، فوطنوا أنفسهم للتعرف عليه وسبر أغواره ومناقشة أفكاره ونقل الصالح منها للتعبير عن جماليات الإسلامية في وقت يتصارع فيه أهل المذاهب الإسلامية، ولا تنتج خطاباتهم إلا إنسانًا مهدورًا، يصبح عُرضة للانتهاك .. ألعوبة ووسيلة للاستخدام.
كان الباحث الغربي إلى وقت قريب يشارك العمل في حقل التصوف الإسلامي مع العرب، ويلتقون في أعمال علمية، وكم من أسماء برزت في هذا الحقل في مصر وبغداد وسوريا، فلا ينسى القارئ في حقل التصوف ما قدّمه أبو العلا عفيفي وعبد الرحمن بدوي وعلي سامي النشار ومحمد مصطفى حلمي وعبد الوهاب عزّام وغيرهم في مصر، وكذلك في العراق يظل اسم كامل مصطفى الشيبي علمًا على الدراسات الصوفية، إن مجلة واحدة من مجلات العراق الكثيرة يصعب أن نهمل ذكرها في هذا الحديث، كانت تتابع الإصدارات الغربية والعربية وتنشر من عيون التراث الصوفي ما لم ينشر من قبل، يكفي أن نعرف أن كثيرا من الدارسين للتصوف الإسلامي ممن لم تنقل مؤلفاتهم إلى العربية حتى اليوم، عرّفت بثمارهم مجلة المورد، فمارجريت سميث التي كتبت عن رابعة وأخواتها من النسوة المتصوفات أول من عرّف بأعمالها كانت مجلة المورد منذ أكثر من سبعين عامًا، وما من نصّ صوفيّ حُقق في الغرب مع بدايات ظهور المورد إلاّ ولقي مراجعة في المجلة، وتم الاستدراك عليه، يكفي أن تراجع تعليقات المحققين العراقيين على نشرة كتاب الطواسين، والمواقف والمخاطبات للنفري. لم يكن الشيبي بالطبع وحده المحقق للأعمال الصوفية في العراق، بل كانت هناك أسماء عديدة تستحق أن تفرد لها دراسة مستقلة تكشف عن جهود المدرسة العراقية المنسية.
هناك مفارقة اليوم في المجتمعات العربية مفادها: أننا نرى أستهلاكًا ملحوظا لما يطرح عن التصوف سواء كان مقولات أديبة أو أبيات شعرية أو حتى أناشيد صوفية في نفس الوقت هناك ضعف في البحث الصوفي في معظم الجامعات العربية ؟
ملاحظة استهلاك المقولات الصوفية والتربّح والتجارة بالأفكار ملاحظة في محلّها، تعبّر عن فقرنا الشديد، وعدم تقديرنا للإنسان في بلداننا العربية، فكل شيء يمكن استغلاله نسعى خلفه غير عابئين بنتائج ذلك وآثارها، نتاجر بالمُقدّس، ونقدّس الصور فحسب، في صلب الفكرة الصوفية النهي عن الالتفات للصور، حتى الكلام يتحوّل إلى قشّ ويطالبنا الصوفية بالبحث عن المعنى، فهو القمح المطلوب.
مما أذكره من كلام بهاء الدّين ولد الملقّب بسلطان العلماء، والذي أنجب للعالم درة فريدة، كان يقول لابنه جلال الدين الرومي: محوتُ نفسي ومحوتُ الصّور من نفسي ؛ لكي أرى الله! قلتُ في نفسي: أمحو هذه عن الله لكي أراه، وأتصل بمنافعه على نحو أسرع. ذكرتُ اسم الله فاتصل ضميري بالله، ورأيتُ الله في معنى الربوبية وصفات الكمال. رأيتُ أن كيف والكيفية ليست لائقة لذاته وصفاته، فقلتُ في نفسي: إن عالم الله شيءٌ آخر.
إن عالم التصوف شيءٌ آخر أيضًا لا يعبّر عنه هذا الاستهلاك، والضعف الذي تراه في البحث الصوفي هو حق بالفعل، وتابع لحالة الضعف العامة في بلداننا العربية التي تنعكس على كل شيء، فالباحث تتقدّم أناه على إنتاجه ما ان يقرأ بعض الكلمات والمقالات يتحوّل إلى مفكّر يدلي برأيه في كافة شؤون الحياة، ومع ثقافة التربّح ووسائل الإعلام بنهجها الحالي تنطفئ جذوة المعرفة التي كانت عنده، وكما يستهلك هو المقولات المحفوظة يتم استهلاكه.
بعض الأساتذة الذين تلقوا المعارف على جيل النهضة العربية، لم يشربوا الإخلاص من ذلك الجيل، ونسوا ما درسوه في خضم الأحداث المتسارعة، فانتقلوا من الإيمان بالمعرفة إلى الإيمان بالوهم والزيف، هؤلاء لا يعلّمون طلابهم شيئًا، يكفي أن نعرف أن كثيرًا من الرسائل العلمية تجاز في جامعاتنا بالمحبة ومن أجل خاطر فلان وعلان.
على أن هناك نفر من المشتغلين بالتصوف اليوم مخلصين لهذا الدرس ويقدّمون بحوثًا ونصوصًا جيدة تعبّر عن تكوين علمي أصيل ومحبة للمعرفة وإيمان بالإنسان العربي.
يعتقدُ البعضُ أن الاهتمام بجلال الدين الروميّ قد غطى على بقية المتصوفة ومعارفهم الذوقية برأيك لماذا ؟
نعم يجري على الألسنة اليوم بشكل لافت للنظر الحديث عن مولانا جلال الدين الرومي، يعود ذلك إلى تناول بعض الأعمال الأدبية الغربية لهذه الشخصية العظيمة، وتقليد بعض العرب لهذا التناول، إلا أن الاهتمام بمولانا لا يغطي على غيره من المتصوفة الآخرين، فمن يتابع الإنتاج الصوفي سيعثر على الكثير من الدراسات الصوفية عن الصوفيين العرب، فضلاً عن تحقيق كثير من أعمالهم التي كانت لا تزال مخطوطة إلى عهد قريب، ففي مصر وبيروت والأردن والمغرب تصدر أعمال عن كبار الصوفية، وتدبج المقالات عن أفكارهم، صحيح أن شخصيات معينة كالحلاج وابن عربي والرومي والبسطامي تحظي بالاهتمام من فئات عدّة دون غيرها من شخصيات التصوف، ولعل ذلك عائد إلى تقديمها بصورة إنسانية تبتعد بها عن الشريعة، وتقدّم مواجيدها وأذواقها وحديثها عن تجربة الحب والعشق، التي يتداخل الإنساني فيها مع الإلهي. ربما لأن الناس ضجروا من المتحدثين عن الشريعة وخلافاتهم، فانجذبوا إلى هذه الشخصيات دون غيرها.