الكاتبة: منى بنت سالم المعولية*
جلستُ وفاصلٌ يتقاذفني، كان مسافة قاب قرنين أو أكثر، أتأمّلُ صراعًا عانته المرأة الغربية في محاربة الفكر، وصراعَا اليوم تتصدَّره ملامحٌ من ورق وحبر، وآراءٌ وأفكار، ومنطقٌ يُركّزُ على مفهوم الأدب النسوي في عالمنا العربي، وأُخصِّص هنا العربي ليس تقليلا من الشأن، وليس تحجيما للعروبة، وليس تسقيفًا لمستوى الفكر، إلا أنه من باب: “أن أهل مكة أدرى بدروبها”، ونحن أدرى ببوادينا وتصحُّرِنا، ونحن أعلم أننا لم نبدأ من حيث انتهى الغير، بل أخذنا نحفِر بئرًا أخرى؛ لنسقي رمضاء تساؤلنا، وإن جاز لي الخوض والتوغّل بمفهوم “الأدب النسوي” -الذي أرفضه تمامًا- فحسب فكري ورأيي أن الجنوسة لا علاقة لها بالأدب، وأنني أنظر للمادة المقدمة، لا إلى جنس كاتبها، بل إلى فكرة ما يكتب، ويسرد، ويقول.
فإنني أستحضر على سبيل المعاناة، كل ما تعرّضتْ له الكاتبة الفرنسية “أوماتين لوسيل دوبان” تلك المتمردة الجميلة، المتكفّنة بالذكورة، رغم فيض أنوثتها، المنتحلة لهوية رجل، والمنتعلة بسخطٍ كل تفاصيل التفاضل بين الذكورة والأنوثة في مجتمعها، مطلقةً على نفسها اسم “جورج صاند” في محاولة منها للتمرد على العادات والقوانين، التي كانت تُرجّح كفَّة الرجل، وتجعله في مصافِّ الوصي على إرْثِها ومالها، وله حقُّ التصرفِ فيه، يصرف عليها بقدر مزاجه وهواه وقلبه وتقلباته، ذاك الواقع الذي رفضته جورج القادمة من أسرة أرستقراطية، غير أن نُبل أصلها ما كان ليشفع لها أن تكون مختلفة عن باقي النساء، فجورج صاند أو أوماتيين لوسيل دوبان – إن أحببنا أن نُزيل غِلاف الاسم المستعار، ونُعيد إليها أنثويتها المخلوعة رغبة وهروبًا- نجد أنها حين أسهبت وذكرت عن حياتها ومغامراتها العاطفية؛ جعلت الأنظار تتجه نحوها بالتعنيف والغضب والسخط والتنكر؛ كون أن كاتبة تلك المذكرات والسيرة الذاتية هي كاتبة أنثى لا ذكر! فهنا نرى حقا أن حتى المرأة الغربية قد عانت القمع، والتعنيف، والهجوم من المتطرفين في كتاباتها وأدبها، وإن ذلك ليس جديدًا، حيث كتبت لوسيل دوبان تفاصيل حياتها دون تقنّع؛ مما أثار السخط الكبير حول جرأتها وصراحتها، وحول واقعها وواقعيّتها، التي كانت واضحة أنها على مبدأ اللاانفرادية في الحب، وأنك ممكن أن تعشق مرارًا؛ ولكنها كانت تعللّ ذلك بأنها لا تخون من تحب من الرجال! وربما هذا رأيته أنا منافيا لواقع سيرتها الذاتية، حيث يبدو جليا أنها وقعت في عشق طبيبٍ إيطاليا وهي برفقة حبيبها الشاعر الألماني المعروف “هاينريش هاينه”، وتركت “هاينه” مريضًا يتلظى بنار الغيرة والترك، محمومًا بداء سكب الكرامةٍ ومزيجٍ من شعورٍ يفهمَهُ الرجالُ وحدهم!!
لست هنا بصدد إعادة سرد سيرة حياة الكاتبة جورج صاند؛ ولكن تقافز إلى ذهني تساؤلٌ مباحٌ! ماذا لو كتب تلك المذكرات رجلٌ، هل كان نصيبه من الانتقاد كما حدث مع كاتبته المرأة؟! غير أن يقضة العالم الغربي وحضارتهم الفكرية استيقظت؛ ولكن بعد أعوامٍ من موت صاند، فها هي اليوم تعود إلى الحياة وتنتصر وهي ميتة؛ فبقت ذكراها خالدة وفي مصافّ العظماء، والمحررين للفكر، والكافلين لحرية التعبير، بعد أن كانت -في فكر بعض معاصريها من المتزمتين للذكورة- مكبًّا لنفاية التحرر، وفي مرتبة الشواذ والمتخلفات.
باعتقادي يجب أن نكون اليوم أكثر فهما وملامسة لهذا المفهوم، ونبتعد من أن نُصنّفُ جنسويّة الأدب، ونصل إلى التساوي التام، وأن الجنسين لهما ما عليها من حقوق أدبية، ونبرهن ما نحن متيقنين سلفًا منه، أن المرأة الكاتبة هي الرجل، ولا يوجد أدبٌ نسوي، ولا يوجد تصنيفٌ، ولا يوجد فرقٌ في البوحِ، والسردِ، وحرية الأفكار، فالمرأة كائنٌ يكتب ويتنفس وبالفكر يعيش، فقولنا: “الأدب النسوي”، يُتِيحُ لنا هيمنة جنسٍ على آخر، ونحن نبحث عن التساوي، ولا ننافس أحدًا، ونتمنى أن نعيش في قرننا الحالي حداثة أفعال، وقرونًا من حيث بدأ الأخرون.
*كاتبة عمانية لها رواية منشورة بعنوان خضراء الدمن وكتاب بعثرة شجن